هل هناك أسرار وحِكم في أن الله يُقدِّر عليك الوقوع في الذنوب؟
هنا يتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى ويقول - بعد أن ذكر كلاماً كثيراً -
أن يشهد العبد حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئتة أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلّى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله:
أحدها : أنه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة.
الثاني : تعريف العبد عزة الله سبحانه في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه.
الثالث : تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
الرابع : استجلابه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال بين يديه.
الخامس : إرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه ، فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذل وتيقن وتمنى أنه وأنه.
السادس : تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطائة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله من به عليه لا من نفسه.
السابع: تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه في ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش.
الثامن: تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.
التاسع: تعريفه كرمه في قبول توبته ومعرفته له على ظلمه وإساءته.
العاشر: إقامة الحجة على عبده، فإن له عليه الحجة البالغة، فإن عذّبه فبعدله وببعض حقه عليه بل اليسير منه.
الحادي عشر: أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلَّاتهم معه بما يجب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.
الثاني عشر: أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، مع إقامة أمره الله فيهم، فيقيم أمر فيهم رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم.
الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة.
الرابع عشر: أن يعريه من رداء العجب بعمله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أشد منه، العجب " أو كما قال.
الخامس عشر: أن يعريه من لباس الإدلال الذي يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذى لا يليق بالعبد سواه.
السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
السابع عشر: أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله في توفيقه وعصمته، فإن من تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية.
الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه، فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.
التاسع عشر: أنه إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله، فاستقل الكثير من عمله لعلمه بأن الذي يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله، فهو دائماً مستقل لعلمه كائنا ما كان، ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيا.
العشرون: أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذي ذاق المرض والدواء.
الواحد والعشرون: أن يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته أو فرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه وجمعه عليه وأقامه في طاعته، فيكون التذاذه في ذلك- بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه.
وإنّ لطفَ الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته.
الثاني والعشرون: امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنه إذا وقع الذنب، سلب حلاوة الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة.
فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة فحنَّت وأنَّت وتضرعت واستعانت بربها ليردها إلى ما عودها من بره ولطفه، وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ومألفها ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله، وقد جاء هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه.
الثالث والعشرون: أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه ، فإن الله إذا أراد بعبد خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقبل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذِكره.
وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذلَّ لربه وزال عنه عجبه وكبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمنَّ بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار.
الرابع والعشرون: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسى عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأول علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة. طريق الهجرتين ص 169
مواد آخرى من نفس القسم
مكتبة الصوتيات
التقصير في بر الأب
0:00
تزكية النفوس
0:00
انشراح الصدر
0:00
ملصقات دعوية في غرف الأطفال
0:00
تأملات من سورة الجاثية - 2
0:00
عدد الزوار
7082353
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 44 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1696 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 992 ) مادة |
