قال ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج ( 2 / 592 ).
ومن منازل ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾: منزلة الشُّكر.
وهي من أعلى المنازل، وهي فوق منزلة الرِّضا، فإنه يتضمَّن الرضا وزيادة، فالرضا مندرجٌ في الشكر، إذ يستحيل وجود الشكر بدونه.
وهو نصف الإيمان، والإيمان نصفان: نصفٌ شكر، ونصفٌ صبر.
وقد أمر الله به ونهى عن ضدِّه، وأثنى على أهله، ووصف به خواصَّ خلقه. وجعله غاية خلقه وأمره، ووعد أهله بأحسن جزائه، وجعله سببًا للمزيد من فضله، وحارسًا وحافظًا لنعمته.
وأخبر أنَّ أهله هم المنتفعون بآياته، واشتقَّ لهم اسمًا من أسمائه، فإنَّه سبحانه هو الشَّكور، وأهلُه هم القليل من عباده.
قال تعالى: ﴿وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ [البقرة: ١٧٢].
وقال عن خليله إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾ [النحل: ١٢٠ - ١٢١]. وقال عن نوحٍ عليه السلام: ﴿إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ [الإسراء: ٣].
وقال: ﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٤٤]. وقال: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: ٧]. وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: ٥].
وسمَّى نفسه شاكرًا وشَكورًا، وسمَّى الشاكرين بهذين الاسمين، فأعطاهم من وصفه وسمَّاهم باسمه، وحسبك بهذا محبَّةً للشاكرين وفضلًا.
وإعادتُه للشاكر مشكورًا كقوله: ﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإنسان: ٢٢].
ورضا الربِّ عن عبده به كقوله: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: ٧].
وقلَّة أهله في العالمين تدلُّ على أنّهم هم خواصُّه، كقوله: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: ١٣].
وفي الصحيح عن النبيِّ ﷺ أنَّه قام حتَّى تورَّمت قدماه، فقيل له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟
وقال لمعاذٍ: والله يا معاذ إنِّي لأحبُّك، فلا تنسَ أن تقول في دبر كلِّ صلاةٍ: اللهمَّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
والشُّكر مبنيٌّ على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبُّه له، واعترافه بنعمته، والثناء عليه بها، وألا يستعملها فيما يكره.
فهذه الخمسة هي أساس الشُّكر، وبناؤه عليها، فمتى عدم منها واحدةً اختلَّ مِن قواعد الشكر قاعدة. وكلُّ من تكلَّم في الشكر وحدِّه، فكلامه إليها يرجع وعليها يدور.
قيل في الشكر: هو عكوف القلب على محبَّة المنعم، والجوارح على طاعته، وجريان اللِّسان بذكره والثناء عليه.
وقيل: الشُّكر قيد النِّعم الموجودة، وصيد النِّعم المفقودة.
فائدة: وشكر العامَّة على المطعم والملبس وقوت الأبدان، وشكر الخاصَّة على التوحيد والإيمان وقوت القلوب.
وقال داود: يا ربِّ، كيف أشكرك؟ وشكري نعمةٌ عليَّ مِن عندك تستوجب بها شكرًا، فقال: الآن شكرتني يا داود.
وفي أثرٍ آخرَ إسرائيليٍّ: أنَّ موسى قال يا ربِّ، خلقتَ آدم بيديك ونفختَ فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، وعلَّمته أسماء كلِّ شيءٍ، وفعلتَ وفعلتَ؛ فكيف أطاق شكرك؟
فقال الله عز وجل: علم أنَّ ذلك منِّي، فكانت معرفته بذلك شكرًا لي.
والشُّكر معه المزيد أبدًا، لقوله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: ٧]، فمتى لم تر حالك في مزيدٍ فاستقبل الشُّكر.
وفي أثرٍ إلهيٍّ يقول الله تعالى: أهل ذكري أهل مجالستي، وأهل شكري أهل زيادتي، وأهل طاعتي أهل كرامتي، وأهل معصيتي لا أقنِّطهم من رحمتي، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهِّرهم من المعايب.
وقال رحمه الله تعالى: وأمَّا إنعام الربِّ على عبده فإحسانٌ إليه وتفضُّلٌ عليه، ومجرَّد امتنانٍ، لا لحاجةٍ منه إليه، ولا لمعاوضةٍ، ولا لاستعانةٍ به، ولا يتكثَّر به من قلَّةٍ، ولا يتعزَّز به من ذلَّةٍ، ولا يتقوَّى به من ضعفٍ؛ سبحانه وبحمده.
وأمرُه له بالشُّكر أيضًا: إنعامٌ آخر عليه، وإحسانٌ منه إليه، إذ منفعة الشُّكر ترجع إلى العبد لا إلى الله، والعبد هو الذي ينتفع بشكره، كما قال تعالى: ﴿شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ﴾ [النمل: ٤٠]، فشكره إحسانٌ منه إلى نفسه.
ومن تمام نعمته سبحانه وعظيم برِّه وكرمه وجوده: محبَّته له على هذا الشُّكر، ورضاه منه به، وثناؤه عليه به؛ ومنفعتُه وعائدته مختصَّةٌ بالعبد، لا تعود منفعته على الله. وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه، يُنعم عليك ثمَّ يُوزعك شكر النِّعمة ويرضى عنك بذلك، ثمَّ يعيد إليك منفعة شكرك ويجعله سببًا لك لاتصال نعمه والزِّيادة منها.
اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين .
مواد آخرى من نفس القسم
مكتبة الصوتيات
باب جامع من كتاب عمدة الأحكام ( 3)
0:00
كتابة الإنجازات
0:00
سورة ق.. وقفات وتأملات
0:00
الوسطية
0:00
صدقة الماء
0:00

عدد الزوار
6265796
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 38 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1671 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |