قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن كلام الشافعي: استعينوا على الكلام بالصمت، وعلى الاستنباط بالفكرة.
وهذا لأنَّ الفكر عملُ القلب، والعبادةَ عملُ الجوارح، والقلبُ أشرفُ من الجوارح؛ فكان عملُه أشرفَ من عمل الجوارح.
وأيضًا؛ فالتفكُّرُ يُوقِعُ صاحبَه من الإيمان على ما لا يُوقِعُه عليه العملُ المجرَّد؛ فإنَّ التفكُّرَ يوجبُ له من انكشاف حقائق الأمور وظهورها له، وتمييزها في الخير والشر، ومعرفة مفضولها من فاضلها وأقبحها من قبيحها، ومعرفة أسبابها الموصلة إليها، وما يقاومُ تلك الأسبابَ ويدفعُ مُوجَبَها، والتمييز بين ما ينبغي السعيُ في تحصيله وما ينبغي السعيُ في دفع أسبابه، والفرق بين الوهم والخيال المانع لأكثر النفوس من انتهاز الفُرص بعد إمكانها وبين السبب المانع حقيقةً فيشتغلُ به دون الأول.
فما قطعَ العبدَ عن كماله وفلاحه وسعادته العاجلة والآجلة قاطعٌ أعظمُ من الوهم الغالب على النفس والخيال الذي هو مَرْكبُها، بل بَحْرُها الذي لا تنفكُّ سابحةً فيه، وإنما يُقْطَعُ هذا العارضُ بفكرةٍ صحيحةٍ وعزمٍ صادقٍ يميَّزُ به بين الوهم والحقيقة.
وكذلك إذا فكَّر في عواقب الأمور وتجاوزَ فكرُه مَبَاديها؛ وَضَعها مواضعَها، وعلم مراتبَها.
فإذا وردَ عليه واردُ الذنب والشهوة، فتجاوزَ فكرُه لذَّتَه وفرحَ النفس به إلى سوء عاقبته وما يترتبُ عليه من الألم والحزن الذي لا يقاومُ تلك اللذَّة والفرحة؛ ومن فكَّر في ذلك فإنه لا يكادُ يُقْدِمُ عليه.
وكذلك إذا وردَ على قلبه واردُ الراحة والدَّعة والكسل والتقاعُد عن مشقَّة الطَّاعات وتعبها، حتى عبَر بفكره إلى ما يترتبُ عليها من اللذات والخيرات والأفراح التي تنغمرُ تلك الآلام التي في مَبَاديها بالنسبة إلى كمال عواقبها، وكلَّما غاص فكرُه في ذلك اشتدَّ طلبُه لها، وسَهُل عليه معاناتُها، واستقبلها بنشاطٍ وقوَّةٍ وعزيمة.
وكذلك إذا فكَّر في منتهى ما يستعبِدُه من المال والجاه والصُّوَر، ونظرَ إلى غاية ذلك بعين فكره، استحيى من عقله ونفسه أن يكون عبدًا لذلك، كما قيل:
لو فَكَّرَ العاشقُ في منتهى حُسْنِ الذي يَسْبِيه لم يَسْبِهِ
مفتاح دار السعادة 1 / 521
مواد آخرى من نفس القسم
مكتبة الصوتيات
أنواع العمر
0:00
تأملات من سورة الشورى - 3
0:00
تأملات من سورة الزخرف - 1
0:00
وقال قرينه..
0:00
زيارة للسجن
0:00
عدد الزوار
5227518
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 29 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1627 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |