قال ابن القيم رحمه الله تعالى: للأخلاق حدٌّ متى جاوزتْه صارت عُدوانًا، ومتى قصَّرتْ عنه كان نقصًا ومهانةً.
فللغضب حدٌّ، وهو الشجاعةُ المحمودةُ والأَنفةُ من الرذائل والنقائص، وهذا كماله، فإذا جاوز حدَّه تعدَّى صاحبُه وجار، وإن نقصَ عنه جبُن ولم يأْنَفْ من الرذائل.
وللحرص حدٌّ، وهو الكفاية في أمور الدنيا وحصول البلاغ منها، فمتى نقص من ذلك كان مهانةً وإضاعةً، ومتى زاد عليه كان شَرَهًا ورغبةً فيما لا تُحمَد الرغبةُ فيه.
وللحسد حدٌّ، وهو المنافسةُ في طلب الكمال والأنفةُ أن يتقدَّم عليه نظيرُه، فمتى تعدَّى ذلك صار بغيًا وظلمًا يتمنَّى معه زوال النعمة عن المحسود ويَحرِصُ على إيذائه، ومتى نقصَ عن ذلك كان دَناءةً وضعفَ همةٍ وصِغَرَ نفس.
قال النبيُّ ﷺ: «لا حسدَ إلّا في اثنتين: رجُلٌ آتاهُ الله مالًا فسلَّطهُ على هَلَكتِه في الحق. ورجلٌ آتاهُ الله الحكمةَ فهو يقضي بها ويُعلِّمُها الناسَ» رواه البخاري، فهذا حسدُ منافسةٍ يُطالبُ الحاسدُ به نفسَه أن يكون مثل المحسود، لا حسدُ مَهانةٍ يتمنَّى به زوالَ النعمة عن المحسود.
وللشهوة حدٌّ، وهو راحةُ القلب والعقل من كَدِّ الطاعةِ واكتساب الفضائل والاستعانة بقضائها على ذلك، فمتى زادت على ذلك صارت نَهْمةً وشَبَقًا والتحقَ صاحبُها بدرجة الحيوانات، ومتى نقصتْ عنه ولم يكن فراغًا في طلب الكمال والفضل كانت ضعفًا وعجزًا ومهانةً.
وللراحة حدٌّ، وهو إجمامُ النفس والقُوى المدرِكة والفعَّالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفُّرها على ذلك، بحيثُ لا يُضعِفُها الكدُّ والتعبُ ويضعفُ أثرها، فمتى زاد على ذلك صار توانيًا وكسلًا وإضاعةً وفات به أكثرُ مصالح العبد، ومتى نقص عنه صار مُضرًّا بالقُوى مُوهِنًا لها، وربَّما انقطع به؛ كالمُنبتِّ الذي لا أرْضَا قطع ولا ظهرًا أبْقى .
والجود له حدٌّ بين طرفين؛ فمتى جاوز حدَّه صار إسرافًا وتبذيرًا، ومتى نقصَ عنه كان بُخلًا وتقتيرًا.
وللشجاعة حدٌّ؛ متى جاوزته صارت تهوُّرًا، ومتى نقصتْ عنه صارتْ جُبنًا وخَوَرًا، وحدُّها الإقدام في مواضع الإقدام والإحجامُ في مواضع الإحجام؛ كما قال معاويةُ لعمرو بن العاص: أعياني أن أعرفَ شُجاعًا أنت أم جبانًا تُقدِمُ حتى أقول: من أشجع الناس، وتَجبُن حتى أقول: من أجبن الناس؟ فقال:
شُجاعٌ إذا ما أمْكنتْنيَ فُرْصةٌ فإن لم تكن لي فُرْصةٌ فجَبانُ
والغيرةُ لها حدُّ؛ إذا جاوزته صارتْ تهمةً وظنًّا سيئًا بالبريء، وإن قصَّرتْ عنه كانت تغافلًا ومبادئ دياثةٍ.
وللتواضع حدٌّ؛ إذا جاوزه كان ذُلًّا ومهانةً، ومن قصَّر عنه انحرف إلى الكبر والفخر.
وللعزِّ حدٌّ؛ إذا جاوزهُ كان كبرًا وخُلُقًا مذمومًا، وإن قصَّرَ عنه انحرف إلى الذُّلِّ والمهانة.
وضابط هذا كُلِّه العدلُ، وهو الأخذُ بالوسطِ الموضوع بين طرفي الإفراط والتفريط، وعليه بناءُ مصالح الدُّنيا والآخرة، بل لا تقوم مصلحة البدن إلَّا به؛ فإنه متى خرج بعضُ أخلاطِه عن العدل وجاوزه أو نقصَ عنه ذهبَ من صحته وقوته بحسب ذلك.
وكذلك الأفعال الطبيعيةُ كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك؛ إذا كانت وسطًا بين الطرفين المذمومين كانت عدلًا، وإن انحرفتْ إلى أحدهما كانت نقصًا وأثمرتْ نقصًا.
الفوائد ص 203
مكتبة الصوتيات
لمثل هذا فليعمل العاملون
0:00
وصية لطالب التحفيظ
0:00
من عجائب الصدقة
0:00
أهمية النجاح
0:00
قصة المخلوق الصغير
0:00
عدد الزوار
5014564
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 24 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1600 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |