49- فائدة : الأشياء الثمانية التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي الهم والحزن والكسل والعجز والجبن والبخل وضِلع الدين وغلبة الرجل ، وكل اثنين منها قرينان ، فالهمّ والحزن قرينان ، فإن المكروه والوارد على القلب إن كان من أمر مستقبل يتوقعه أحدث الهم وإن كان من أمر ماض قد وقع أحدث الحزن ، والعجز والكسل قرينان فإنّ تخلّف العبد عن أسباب الخير والفلاح إن كان لعدم قدرته فهو العجز وإن كان لعدم إرادته فهو الكسل ، والجبن والبخل قرينان فإن عدم النفع منه إن كان ببدنه فهو الجبن وإن كان بماله فهو البخل ، وضلع الدين وقهر الرجال قرينان، فإن استيلاء الغير عليه إن كان بحق فهو من ضلع الدين، وإن كان بباطل فهو من قهر الرجال .
49- ومن عقوبات الذنوب : أنها تُزيل النعم وتحل النقم ، فما زالت عن العبد نعمة إلا بسبب ذنب ولا حلّت به نقمة إلا بذنب كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع بلاء إلا بتوبة ، وقد قال تعالى " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير " .
وقال تعالى " ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " .
فأخبر الله تعالى إنه لا يغير نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه ، فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره ، وأسباب رضاه بأسباب سخطه فإذا غيّر غيّر الله عليه جزاءً وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد .
53- ومن عقوباتها : سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه ، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم وأقربهم منه منزلة أطوعهم له ، وعلى قدر طاعة العبد تكون له منزلة عنده فإذا عصاه وخالف أمره سقط من عينه فأسقطه من قلوب عباده .
54- ومن عقوباتها : أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف وتكسوه أسماء الذم والصغار فتسلبه اسم المؤمن والبر والمحسن والمتقي والمطيع والمنيب والولي والورع والمصلح والعابد والخائف والأواب والطيب ونحوها ، وتكسوه اسم الفاجر والعاصي والمخالف والمسيء والمفسد والخبيث وقاطع الرحم وأمثالها ، فهذه أسماء الفسوق وبئس الاسم الفسوق بعد الإيمان التي توجب غضب الديّان ودخول النيران وعيش الخزي والهوان، وتلك أسماء توجب رضى الرحمان ودخول الجنان .
55- ومن أعظم عقوباتها : أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه تبارك وتعالى وإذا وقعت القطيعة انقطعت عنه أسباب الخير واتصلت به أسباب الشر، قال بعض السلف : رأيتُ العبد ملقى بين الله سبحانه وبين الشيطان فإن أعرض الله عنه تولاه الشيطان وإن تولاه الله لم يقدر عليه الشيطان .
56- ومن عقوباتها : أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة ، وبالجملة أنها تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصى الله ، وما محت البركة من الارض إلا بمعاصي الخلق ، قال الله تعالى " ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض " .
وقال تعالى " وألَّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه " وفي الحديث " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه " .
57- وكل شيء لا يكون لله فبركته منزوعة .
58- في مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله وعليه وسلم أنه قال : " جُعِلت الذلة والصغار على من خالف أمرى " .
وكلما عمل العبد معصية نزل الى أسفل درجة ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين ، وكلما عمل طاعة ارتفع بها درجة ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين، وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه والنزول من وجه وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله ، فليس مَن صعد مائة درجة ونزل درجة واحدة كمن كان بالعكس .
58- ولكن يعرض ههنا للنفوس غلطٌ عظيم وهو أن العبد قد ينزل نزولاً بعيداً أبعد مما بين المشرق والمغرب ومما بين السماء والأرض ولا يفيء بصعوده ألف درجة بهذا النزول الواحد كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن العبد ليتكلم بالكلمة الواحدة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب " ، فأي صعود يوازن هذه النزلة ؟
والنزول أمر لازم للإنسان ولكن من الناس من يكون نزوله إلى غفلة فهذا متى استيقظ من عفلته عاد إلى درجته أو إلى أرفع منها بحسب يقظته ، ومنهم من يكون نزوله إلى مباح لا ينوي به الاستعانة على الطاعة فهذا إذا رجع إلى الطاعة قد يعود إلى درجته وقد لا يصل اليها .
63- خطر الذنوب على سوء الخاتمة .
وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد يتمكن منه الشيطان ، ويستعمله بما يريد من المعاصي وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى وعطّل لسانه من ذكره وجوارحه عن طاعته .
فكيف الظن به عند سقوط قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع ، وقد جمع الشيطان له كل قوته وهمته وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته ، فإن ذلك آخر العمل فأقوى ما يكون عليه شيطانه ذلك الوقت ، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة ؟
فكيف يوفق لحسن الخاتمة من كان غافلاً عن ذكر الله ، واتبع هواه وكان أمره فرطا ؟
63- كمال الإنسان مداره في أصلين :
1- معرفة الحق من الباطل .
2- إيثاره عليه .
وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين وهما اللذان أثنى الله بهما سبحانه على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام في قوله تعالى " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار " .
فالأيدي هي القوة في تنفيذ الحق ، والأبصار هي البصائر في الدين ، فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه .
64- الطاعات تحرق الشياطين .
الطاعة تنور القلب وتجلوه وتصقله وتقويه وتثبته حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها وصفائها فيمتلئ نوراً ، فإذا دنى الشيطان منه أصابه من النور ما يصيب مسترق السمع من الشهب الثواقب ، فالشيطان يفرق من هذا القلب أشد من فرق الذئب من الأسد حتى إن صاحبه ليصرع الشيطان فيخر صريعاً ، فتجتمع عليه الشياطين فيقول بعضهم لبعض : ما شأنه ؟ فيقال : أصابه أنسي وبه نظرة من الأنس .
74- ومن عقوبات الذنوب : أنها تباعد عن العبد وليه وأنصح الخلق له وأنفعهم له وهو المَلَك الموكل به ، وتدني منه عدوه وأغش الخلق له وأعظمهم ضرراً له وهو الشيطان .
فإن العبد إذا عصى الله تباعد منه المَلَك بقدر تلك المعصية حتى إنه يتباعد منه بالكذبة الواحدة مسافة بعيدة وفي بعض الآثار " إذا كذب العبد تباعد منه المَلَك ميلاً من نتن ريحه " .
فإذا كان هذا تباعد المَلَك منه من كذبة واحدة فماذا يكون قدر تباعده منه مما هو أكبر من ذلك ؟
75- قال بعض السلف : إذا أصبح ابن آدم ابتدره المَلَك والشيطان فإن ذكر الله ، طرد المَلَك الشيطان وتولاه ، وإن افتتح بغير ذلك ذهب المَلَك عنه وتولاه الشيطان .
ولا يزال المَلَك يقرُب من العبد حتى يصير الحكمُ والطاعةُ والغلبةُ له فتتولاه الملائكة في حياته وعند موته .
77- في عقوبة الزنى ، لماذا لم تكن على قطع العضو مثل قطع يد السارق ؟
لأسباب :
1- أن الفرج عضو مستور لا يحصل بقطعه مقصود الحد من الردع والزجر لأمثاله من الجناية بخلاف قطع اليد .
2- أنه إذا قطع يده أبقى له يد أخرى تعوض عنها بخلاف الفرج .
3- ان لذة الزنا عمّت جميع البدن فكان الأحسن أن تعمّ العقوبة جميع البدن وذلك أولى من تحصيصها ببضعة منه ، فعقوبات الشارع جاءت على أتم الوجوه وأوفقها للعقل وأقومها بالمصلحة .
77- المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها وإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة ، وإذا رأى الناس المنكر فاشتركوا في ترك إنكاره أوشك أن يعمّهم الله تعالى بعقابه .
77- العقوبات الشرعية ثلاثة أنواع : القتل والقطع والجلد .
78- يتعاظم الذنب حسب القرائن .
مثال : الزنا ، فأعظم أنواع الزنا أن يزني بحليلة جارة فإن مفسدة الزنا تتضاعف بتضاعف ما انتهكه من الحق، فالزنا بالمرأة التي لها زوج أعظم إثما وعقوبة من التي لا زوج لها إذ فيه انتهاك حرمة الزوج وإفساد فراشه وتعليق نسب عليه لم يكن منه وغير ذلك من أنواع أذاه فهو أعظم اثماً وجرماً من الزنا بغير ذات الزوج .
فإن كان زوجها جاراً له انضاف إلى ذلك سوء الجوار وأذى الجار من أعظم البوائق وقد ثبت عن النبي أنه قال : لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه " .
ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأته فالزنا بمائة امرأة لا زوج لها أيسر عند الله من الزنا بامرأة الجار ، فإن كان الجار أخاً له أو قريباً من أقاربه انضم إلى ذلك قطيعة الرحم فيتضاعف الإثم فإن كان الجارغائباً في طاعة الله كالصلاة وطلب العلم والجهاد تضاعف الإثم حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله يوقف له يوم القيامة ويقال خذ من حسناته ما شئت ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فما ظنكم ؟
أي ما ظنكم أنه يترك له من حسنات قد حكم في أن يأخذ منها ما شاء على شدة الحاجة إلى حسنة واحدة حيث لا يترك الأب لابنه ولا الصديق لصديقه حقاً .
فإن اتفق أن تكون المرأة رحماً منه انضاف إلى ذلك قطيعة رحمها فإن اتفق أن يكون الزاني محصناً كان الإثم أعظم فإن كان شيخاً كان أعظم إثماً وهو أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .
فإن اقترن بذلك أن يكون في شهر حرام أو بلد حرام أو وقت معظم عند الله كأوقات الصلاة وأوقات الاجابة تضاعف الإثم وعلى هذا فاعتبر مفاسد الذنوب وتضاعف درجاتها في الإثم والعقوبة والله المستعان .
79- الذنوب ثلاثة أقسام :
1- فيه الحد فهذا لم يشرع فيه كفارة اكتفاء بالحد .
2- لم يترتب عليه حد ، فشُرع فيه الكفارة كالوطء في نهار رمضان ، والوطء في الإحرام ، والظهار وقتل الخطأ والحنث في اليمين وغير ذلك .
3- لم يترتب عليه حد ولا كفارة .
80- وأما العقوبات القدرية فهي نوعان : نوع على القلوب والنفوس ، ونوع على الأبدان والأموال .
والتي على القلوب نوعان :
أحدهما : آلام وجودية يضرب بها القلب .
والثاني : قطع المواد التي بها حياته وصلاحه عنه ، وإذا قطعت عنه حصل له أضدادها ، وعقوبة القلوب أشد العقوبتين وهي أصل عقوبة الأبدان ، وهذه العقوبة تقوى وتتزايد حتى تسري من القلب إلى البدن كما يسري ألم البدن إلى القلب ، فإذا فارقت النفس البدن صار الحكم متعلقا بها فظهرت عقوبة القلب حينئذ وصارت علانية ظاهرة وهي المسماة بعذاب القبر.
والتي على الأبدان أيضا نوعان : في الدنيا ، ونوع في الآخرة وشدتها ودوامها بحسب مفاسد ما رُتِّب عليه في الشدة والخفة .
80- من دعاء الملائكة للمؤمنين قولهم " وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ فقدر رحمته " .
وهذا يتضمن طلب وقايتهم من سيئات الأعمال ، ومن عقوباتها التي تسوء صاحبها فإنه سبحانه متى وقاهم عمل السيء وقاهم الجزاء السيء .
81- عقوبات السيئات تتنوع إلى عقوبات شرعية وعقوبات قدرية ، وهي إما في القلب وإما في البدن وإما فيهما ، وعقوبات في دار البرزخ بعد الموت ، وعقوبات يوم القيامة ، فالذنب لا يخلو من عقوبة البتة .
81- عقوبات الذنوب واقعة ولابد ولكنها قد تتأخر ، وقد تقارن الذنب ، وقد تتأخر عنه إما يسير وإما مدة كما يتأخر المرض عن سببه أن يقارنه .
وكثيراً ما يقع الغلط للعبد في هذا المقام ويذنب الذنب فلا يرى أثره عقيبه ولا يدري أنه يعمل وعمله على التدريج شيئاً فشيئاً كما تعمل السموم والأشياء الضارة حذو القذة بالقذة ، فإن تدارك العبد نفسه بالأدوية والاستفراغ والحمية وإلا فهو صائر إلى الهلاك ، هذا إذا كان ذنباً واحداً لم يتداركه بما يزيل أثره فكيف بالذنب على الذنب كل يوم وكل ساعة ؟
84- من قرّت عينه بالله قرّت به كل عين ، ومن لم تقرّ عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات ، والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً كما قال تعالى " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون " .
فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة والحسنى يوم القيامة ، فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين ونظير هذا قوله تعالى " للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين " .
ونظيرها قوله تعالى " وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله " .
ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين ، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة هو النعيم على الحقيقة ، ولا نسبة لنعيم البدن إليه فقد قال بعض من ذاق هذه اللذة : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف .
وقال آخر : إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب .
85- الحاجة للدعاء بالهداية .
فليس العبد أحوج إلى شيء منه إلى هذه الدعوة وليس شيء أنفع منها فإن الصراط المستقيم يتضمن علوماً وإرادة وأعمالاً وتروكاً ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت ، فتفاصيل الصراط المستقيم قد يعلمها العبد وقد لا يعلمها .
وقد يكون ما لا يعلمه أكثر مما يعلمه .
وما يعلمه قد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه .
وما يفعله قد يقوم بشروط الإخلاص وقد لا يقوم .
وما يقوم فيه بشروط الإخلاص قد يقوم فيه بكمال المتابعة وقد لا يقوم .
وما يقوم فيه بالمتابعة قد يثبت عليه وقد يُصرف قلبه عنه ، وهذا كله واقع سائر في الخلق فمستقل ومستكثر.
78- وقد دلّ القرآن والسنة وإجماع الصحابة والتابعين بعدهم والأئمة على أن من الذنوب كبائر وصغائر ، قال الله تعالى " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم " .
وقال تعالى " والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " ، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر " .
وهذه الأعمال المكفرة لها ثلاث درجات :
أحدها : أن تقصُر عن تكفير الصغائر لضعفها وضعف الإخلاص فيها .
الثانية : أن تقاوم الصغائر ولا ترتقي إلى تكفير شيء من الكبائر .
الثالثة : أن تقوى على تكفير الصغائر وتبقى فيها قوة تكفر بها بعض الكبائر.
100- قال بعض السلف : البدعة أحب إلى إبليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها .
وقال إبليس : أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار ، فلما رأيت ذلك منهم بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
ومعلوم أن المذنب إنما ضرره على نفسه وأما المبتدع فضرره على النوع ، وفتنة المبتدع في أصل الدين وفتنة المذنب في الشهوة .
والمبتدع قد قعد للناس على صراط الله المستقيم يصدهم عنه ، والمذنب ليس كذلك .
والمبتدع قادح في أوصاف الرب وكماله ، والمذنب ليس كذلك ، والمبتدع مناقض لما جاء به الرسول ، والعاصي ليس كذلك ، والمبتدع يقطع على الناس طريق الآخرة والعاصي بطيء السير بسبب ذنوبه .
102- توبة القاتل .
والتحقيق في المسألة أن القتل يتعلق به ثلاثة حقوق ، حق لله وحق للمظلوم المقتول وحق للولي ، فإذا سلّم القاتل نفسه طوعاً واختياراً إلى الولي ندماً على ما فعل وخوفاً من الله وتوبة نصوحاً يسقط حق الله بالتوبة وحق الولي بالإستيفاء أو الصلح أو العفو ، وبقي حق المقتول يعوضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن ويصلح بينه وبينه .
103- ما أوتي أحد بعد الإيمان أفضل من الفهم عن الله وعن رسوله ، وذلك فضل الله يوتيه من يشاء.
109- العارف ابن وقته فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها ، فجميع المصالح إنما تنشأ من الوقت فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبداً ، قال الشافعي رضى الله عنه : صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين ، أحدهما قولهم " الوقت سيف فإن لم تقطعه قطعك " والكلمة الأخرى " ونفسك إن أشغلتها بالحق وإلا اشغلتك بالباطل " .
فوقت الإنسان هو عمره في الحقيقة ، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم ، وهو يمر أسرع من مر السحاب فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره ، وغير ذلك ليس محسوباً من حياته .
109- وإذا كان العبد وهو في الصلاة ليس له من صلاته إلا ما عقل منها ، فليس له من عمره إلا ما كان فيه بالله ولله .
111- وإذا أردت أن تستدل على ما في القلوب فاستدل عليه بحركة اللسان فإنه يطلعك على ما في قلب صاحبه ، قال يحيى بن معاذ : القلوب كالقدور تغلي بما فيها ، وألسنتها مغارفها فانظر للرجل حين يتكلم فإن لسانه يغترف لك به مما في قلبه من حلو وحامض وعذب وأجاج وغير ذلك .
112- ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنا والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه حتى ترى الرجل يُشار إليه بالدين والزهد والعبادة وهو يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا .
112- اختلف السلف والخلف هل يُكتب على الإنسان جميع ما يتلفظ به ؟ أو الخير والشر ؟ فقط على قولين ، أظهرهما الأول .
113- في اللسان آفتان عظيمتان إن خلص العبد من أحدهما لم يخلص من الآخرة ، آفة الكلام وآفة السكوت ، وقد يكون كل منهما أعظم إثماً من الأخرى في وقتها .
فالساكت عن الحق شيطان أخرس عاص لله مراء مداهن .
والمتكلم بالباطل شيطان ناطق عاص لله .
وأكثر الخلق منحرف في كلامه وسكوته ، فهم بين هذين النوعين ، وأهل الوسط وهم أهل الصراط المستقيم كفوا ألسنتهم عن الباطل وأطلقوها فيما يعود عليهم نفعه في الآخرة فلا يرى أحدهم أنه يتكلم بكلمة تذهب عليه ضائعة بلا منفعة فضلاً أن تضره في آخرته .
وإن العبد ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها عليه كلها ، ويأتي بسيئات أمثال الجبال فيجد لسانه قد هدمها من كثرة ذكر الله عز و جل وما اتصل به .
115- وقد جرت سنة الله سبحانه في خلقه أنه عند ظهور الزنا يغضب الله سبحانه وتعالى ، قال عبد الله بن مسعود : ما ظهر الربا والزنا في قرية الا أذن الله بإهلاكها .
116- قال الحافظ أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الاشبيلي رحمه الله : وأعلم أن لسوء الخاتمة أعاذنا الله منها أسباب ولها طرق وأبواب، أعظمها الانكباب على الدنيا وطلبها والحرص عليها والإعراض عن الأخرى ، والإقدام والجرأة على المعاصي ، وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية وجانب من الإعراض ونصيب من الجرأة والإقدام فملك قلبه وسبى عقله وأطفأ نوره وأرسل عليه حجبه فلم تنفع فيه تذكرة ولا نجعت فيه موعظة فربما جاءه الموت على ذلك .
125- فوائد غض البصر :
أحدها : أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده ، وليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامر ربه تبارك وتعالى ، وما سعُد من سعد في الدنيا والآخرة إلا بامتثال أوامره وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره.
الثاني : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم الذى لعل فيه هلاكه إلى قلبه .
الثالث : أنه يورث القلب أنساً بالله وجمعيةً على الله ، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ويبعده عن الله ، وليس على العبد شيء أضر من إطلاق البصر فإنه يوقع الوحشة بين العبد وبين ربه .
الرابع : أنه يقوي القلب ويفرحه كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .
الخامس : أنه يُكسب القلب نوراً كما أن إطلاقه يكسبهُ ظلمة ولهذا ذكر سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر فقال " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم " .
ثم قال بعد ذلك " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه .
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان .
السادس : أنه يورث الفراسة الصادقة التي يميز بها بين المحق والمبطل والصادق والكاذب ، قال بعض السلف : من عمَر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغضّ بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشهوات واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة .
والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله ومن ترك شيئاً عوضه الله خيراً منه ، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته ، ويفتح له باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة التي إنما تنال ببصيرة القلب .
السابع : إنه يورث القلب ثباتاً وشجاعة وقوة ، ويجمع الله له بين سلطان البصيرة والحجة وسلطان القدرة والقوة ، كما في الأثر : الذي يخالف هواه يفر الشيطان من ظله .
الثامن : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها ، وإطلاق البصر يشتت عليه ذلك ويحول عليه بينه وبينها فتنفرط عليه أموره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه قال تعالى " ولا تطع من أغفلتا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا " .
التاسع : أن بين العين والقلب منفذاً وطريقاً يوجب اشتغال أحدهما عن الآخر ، وأن يصلح بصلاحه ويفسد بفساده فإذا فسد القلب فسد النظر ، وإذا فسد النظر فسد القلب .
وكذلك في جانب الصلاح فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه فيه وإنما يسكن فيه أضداد ذلك .
128- من أعرض عن محبة الله وذكره والشوق إلى لقائه ابتلاه بمحبة غيره ، فيُعذب به في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة.
130- العشق هو : الإفراط في المحبة ، ولهذا لا يوصف به الرب تبارك وتعالى ولا يطلق في حقه .
وأما الشوق فهو سفر القلب إلى المحبوب ، وقد جاء إطلاقها في حق الرب تعالى كما في مسند أحمد من حديث عمار بن ياسر أنه صلى صلاة فأوجز فيها فقيل له في ذلك ، فقال : أما إني دعوت فيها بدعوات كان النبي يدعو بهنّ ، اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق ، أن تحييني إذا كانت الحياة خيرا لي وأن تتوفاني إذا كانت الوفاة خيرا لي ، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة ، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب ، وأسألك القصد في الفقر والغنى ، وأسألك نعيما لا ينفذ ، وأسألك قرة عين لا تنقطع ، وأسألك الرضا بعد القضاء ، وأسألك برد العيش بعد الموت ، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة ، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين .
وأطيب العيش واللذة على الاطلاق عيش المشتاقين المستأنسين فحياتهم هي الحياة الطيبة في الحقيقة ، ولا حياة للعبد أطيب ولا أنعم ولا أهنأ منها ، فهي الحياة الطيبة المذكورة في قوله تعالى " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة " .
131- في الحديث القدسي " ما تقرب إلي عبدى بمثل أداء ما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشى ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه " . رواه البخاري .
تجد هنا أن الله حصر أسباب محبته في أمرين :
أداء فرائضه والتقرب إليه بالنوافل ، وأخبر سبحانه أن أداء فرائضه أحبّ ما تقرّب إليه المتقربون ثم بعدها النوافل ، وأن المحب لا يزال يكثر من النوافل حتى يصير محبوباً لله ، فإذا صار محبوباً لله أوجبت محبة الله له محبةً منه أخرى فوق المحبة الأولى فشغلت هذه المحبة قلبه عن الفكرة والاهتمام بغير محبوبه وملكت عليه روحه ولم يبق فيه سعة لغير محبوبه البتة فصار ذكر محبوبه وحبه مثله الأعلى مالكاً لزمام قلبه مستولياً على روحه استيلاء المحبوب على محبه ، الصادق في محبته التي قد اجتمعت قوى حبه كلها له ، ولا ريب أن هذا المحب إن سمِعَ سمِعَ لمحبوبه وإن أبصر أبصر به وإن بطش بطش به وإن مشى مشى به فهو في قلبه ومعه ومؤنسه وصاحبه .
133- في الحديث القدسي " ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه " أي كما وافقني في مرادي بامتثال أوامري والتقرب إلي بمحابي فأنا أوافقه في رغبته ورهبته فيما يسألني أن أفعل به ويستعيذني أن يناله مكروه .
134- هنا أربعة أنواع من الحب يجب التفريق بينهما وإنما ضل من ضل بعدم التمييز بينهما :
أحدهما : محبة الله ، ولا تكفي وحدها في النجاة من الله من عذابه والفوز بثوابه ، فإن المشركين وعباد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله .
الثاني : محبة ما يحب الله ، وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر ، وأحب الناس إلى الله أقومهم بهذه المحبة وأشدهم فيها .
الثالث : الحب لله وفيه ، وهي من لوازم محبة ما يحب الله ولا تستقيم محبة ما يحب الله إلا بالحب فيه وله .
الرابع : المحبة مع الله وهي المحبة الشركية ، وكل من أحب شيئاً مع الله لا لله ولا من أجله ولا فيه فقد اتخذه نداً من دون الله ، وهذه محبة المشركين .
وبقي قسم خامس ليس مما نحن فيه وهي المحبة الطبيعية ، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه كمحبة العطشان للماء والجائع للطعام ومحبة النوم والزوجة والولد فتلك لا تذم إلا إن ألهت عن ذكر الله وشغلته عن محبته كما قال تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله " .
وقال تعالى رجال " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " .
140- وكلما كان وجود الشيء أنفع للعبد وهو إليه أحوج كان تألمه بفقده أشد ، وكل ما كان عدمه أنفع كان تألمه بوجوده أشد ، ولا شيء على الإطلاق أنفع للعبد من إقباله على الله واشتغاله بذكره وتنعمه بحبه وإيثاره لمرضاته بل لا حياة له ولا نعيم ولا سرور ولا بهجة إلا بذلك .
149- بعد أن تكلم المؤلف عن قصة ابتلاء يوسف عليه السلام مع المرأة .
قال رحمه الله : وفي هذه القصة - أي سورة يوسف - من العبر والفوائد والحكم ما يزيد على ألف فائدة لعلنا إن وفقنا الله أن نفردها في مصنف مستقل .
تمت كتابة الفوائد س 10 صباح الأربعاء 11 – 5 – 1443هـ
مكتبة الصوتيات
الحث على التعاون
0:00
تلاوة من سورة المطففين 22-26
0:00
ماذا يحب الرجل من زوجته ؟!
0:00
فن الصدقة
0:00
هو الله
0:00
عدد الزوار
4970399
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 24 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1596 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |