في طريق الدعوة والإصلاح تكثر الفتن المتعلقة بحظوظ النفس وتتوارد شهوات الشهرة والحرص على البقاء في ذاكرة الناس.
ويحرص البعض على أن يكون هو الأول في مصاف الدعاة والمشاهير ويمارس في سبيل تحقيق ذلك عشرات الوسائل القولية والفعلية والتقريرية.
إن قضية الإخلاص وتصفية الأعمال عند الله تعالى من أصعب الأمور في واقعنا الدعوي والعلمي والتربوي.
وهذا ابن القيم رحمه الله تعالى يهمس ويقول في زمنه المليء بالتقوى واليقين " فلا إله إلا الله كم في النفوس من علل وأغراض وحظوظ تمنع الأعمال أن تكون خالصة لله وأن تصل إليه " مدارج السالكين 2 / 64
رحمك الله يا ابن القيم، لقد بتنا في زمن لابد أن نُظهر كل يوم ماذا عملنا فيه من خلال مواقع التواصل.
وحول هذا أهمس وأقول:
1- كلنا يسمع بالإخلاص وتجديد النية ومحاسبتها، ولكن يغيب عن النفس اتهامها بالتقصير في ذلك وكأن المخاطب بالإخلاص هم قومٌ آخرون من صغار الدعاة والمبتدئين في طلب العلم وبعض العُبّاد، أما ذلك الداعية المشهور فهو غير مخاطب لأنه مشهور ولا يحتاج أن يحاسب نفسه على الإخلاص لعلمه بتعريف الإخلاص وأدلته ونحو ذلك.
2- في نظرة لحياة السلف ومواقفهم مع الإخلاص وإظهار الأعمال تجد العجب، فكل قارئ يمكنه أن يجزم بتواتر إخفاء الأعمال عند السلف والحذر من الشهرة، وأقوالهم وأفعالهم في بيان ذلك منثورة في الكتب، ولكن بعض الدعاة لا يقدر أن يخفي عمله، وكأن الأصل هو أن يعمل لكي يعلم الناس به لكي يقتدوا به ويتأثروا به.
مشاهد من الواقع:
١ - أحدهم يذكر عدد المتابعين له في مواقع التواصل بشكل غريب، لماذا تذكر العدد؟ وماذا تستفيد الدعوة من الأعداد، أليس للنفس حظوظ؟ أليس ذلك من التكاثر المذموم؟ ربما.
٢ - بعضهم يحرص على أن يكون حاضراً في أذهان الناس من خلال كل وسيلة متاحة، وليس عنده مبدأ الخفاء أبداً.
يا أخي نحن لا نتهمك ولكن عوّد نفسك أن تختفي أحياناً عن الأنظار، وليكن لك نصيب من الحديث " إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي " رواه مسلم.
٣- إن بعض الدعاة يدعو لنفسه من خلال دعوته للدين، وعلامة ذلك محبة انتشار الاسم في الآفاق.
يا محب، إن من الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة " ذلك العالم الذي انتفع الناس بعلمه ".
تأمل، إنه عالِم، ولعل الناس استفادوا من علمه ومحاضراته ولكن كل ذلك لم يكن مانعاً له من أن يتقلب في جهنم.
مرةً أخرى، لاحظ معي، إنه صاحب علم أي لديه علم وانتفع الناس به واهتدوا بسببه، وربما كان سبباً في إسلام البعض ولعل له حسنات كثيرة ستلحق به، ولكن كل ذلك لم يشفع له وينجيه من حطب جهنم.
إن هذا الحديث مخيف جداً لمن كان له قلب.
- تعال معي لذلك القارئ صاحب الصوت الحسن الذي انتشر صيته في الآفاق.
أقول له: يا ترى ماذا لو ذمّ الناس صوتك؟ هل يستوي حامدك وذامّك؟ ماذا لو لم يمتلأ مسجدك كالعادة؟ ماذا لو جاء منعك من الصلاة بالناس؟ هل ستتأثر؟ ولماذا؟
هل لأن صوتك اختفى من الشهرة والحضور في حياة الناس؟ لماذا تحرص كل الحرص على تصوير صلاتك بالناس وخاصة وقت القنوت وخاصةً وقت الدموع؟ ماذا تريد بالضبط؟ هل لكي يعرف الناس مدى تأثير صوتك؟ أو مدى تميزك في استجلاب الدموع؟ إنها أسئلة دقيقة لابد من الانتباه لها.
وإذا كان السلف الذين هم أعلم واتقى وأنقى يخافون من مقدمات الشهرة ولم يكن لديهم مواقع التواصل التي ساهمت في نشر الأعمال، فكيف بحالنا نحن؟
إن البعض قد يستغرب من دقة هذه المحاسبة ولكن لابد منها في النصيحة لمن نحب.
إن من أدلة صدقك أن تكره أن يعلم الناس بأعمالك لا أن تفرح.
ومضة: إن هناك فرق بين أن تُظهِر عملاً واحداً فقط لكي يقتدي بك الناس وبين أن تجعل الغاية من كل عمل هو الإظهار ليقتدي بك الناس.
جولة في النصوص والإخلاص والاختفاء:
قال صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي. رواه مسلم، تأمل الارتباط بين هذه الصفات وبين " الخفي ".
وتعال معي لنتأمل قصة أويس القرني رحمه الله.
قال صلى الله عليه وسلم: خير التابعين رجل يقال له أويس من رآه منكم فليأمره أن يستغفر له، وذكر من شأنه أنه لو أقسم على الله لأبره. رواه مسلم.
فكان عمر رضي الله عنه كلما أتت وفود اليمن يسأل أفيكم أويس؟ فأتى ذلك الوفد وإذا فيه أويس، فقال عمر لأويس: استغفر لي.
فقال: أنت أمير المؤمنين.
أراد عمر أن يكرم وفادته فقال له: إلى أين أنت ذاهب؟ أي بعد الحج. فقال: إلى الكوفة، قال: آمر عاملي هناك - أي آمر الأمير في الكوفة ليستقبلك ويعتني بك؟
قال: لا، أكون في غبراء الناس أحب إلي، يعني فقراء وصعاليك الناس.
فلما عرف الناس فضل أويس عن طريق عمر رضي الله عنه، خاف أويس على نفسه وهام على وجهه، فذهب واختفى لكيلا يشعر به أحد. رواه مسلم.
تأمل جيداً كيف اختفى بشكل عجيب عن الناس وثناءهم، ولو تأملت أنه اختفى عن الصحابة والتابعين الذين هم أعظم الناس وأكثرهم نفعاً.
والواحد منا في هذا العصر ربما يريد أن يكون هو البارز الواضح، نسأل الله السلامة والعافية.
السلف والبعد عن الأضواء:
- كتب أبان بن عثمان إلى بعض إخوانه: إن أحببت أن يسلم لك دينك فقلّل معارفك.
- قال أحمد بن حنبل لصاحبه عبد الوهاب: أخمل ذكرك فإني قد بليتُ بالشهرة.
- قال أحمد: أشتهي ما لا يكون، أشتهي مكاناً لا يكون فيه أحد من الناس.
- هذا ابن تيمية لما مدحه بعض الناس قال: أنا إلى الآن أنا أجدّد إسلامي.
- لعل بعضنا لا يقوى على أن يذم نفسه في الملأ لأنه سيختفي من القلوب والمتابعين.
يا محب، اعلمُ أنك تعلم أكثر مني عن مثل تلك الآثار من حياة السلف وكراهيتهم للشهرة، ولكن ما بالك لا تخاف على نفسك من الافتتان؟
هل أنت أكثر إيماناً منهم أو أن نفسك لن تتأثر بالجمهور المحيط بك.
تنبيه: لا يفهم من كلامي أن نختفي وراء البيوت ونمنع العلم والتعليم، لا، بل يجب أن ننزل للميدان، ونسافر للبلدان، ونعلم الجاهل، وننشر الإسلام ولكن في مسيرتنا تلك نحذر أن نكون ممن يدعو إلى نفسه ولا يدعو إلى الله.
إن من أثقل الكلمات في نظري " هذا داعية إلى الله " ولقد نظرتُ في كتب السلف فلم أجدها في حياتهم.
إن الإسلام دين سيبقى بك وبدونك، فلا تستغل الإسلام لترتفع أنت، واتق الله الذي يعلم حقيقة نيتك، وتذكر " يوم تبلى السرائر ".
حلول للنقاء:
- ادع ربك دوماً وأبداً بالإخلاص.
- تذكّر أن معرفة الناس بك لن تنفعك كثيراً وأنهم سينسونك بعد أيام، ولكن المهم الإخلاص الذي يرفعك ويبقي ذكرك ويبارك في جهودك.
- لا تظن أن كثرة الناس حولك وشهرتك دليل على أنك ناجٍ يوم القيامة، وتذكَّر العالِم والقارئ والمجاهد والمتصدق الذين قاموا بأعمال جليلة وانتفع الناس بهم ومع ذلك هم أول من يسعر بالنار.
- أخف نفسك بعض الأحيان وتذوق حلاوة الاختفاء والعزلة.
- لا يكن همّك في كل عمل أن يراك الناس لينتفعوا بك وليكن همك صحة عملك وقبوله عند الله.
- تواضع في نفسك وفي لباسك وامش وعليك الوقار، واجلس مع الضعفاء وامش مع الفقراء.
- عوّد نفسك أن تلغي ما يُسمى بالأعداد في مسيرتك الدعوية، فلو لم يحضر لك إلا خمسة فلا تقلق، ولو ذهب حسابك من مواقع التواصل، أو تم عزلك من مكانك العلمي والدعوي وبقيت بلا شيء، فلا حرج مادام أنك تعرف الواحد الأحد.
هذا ابن تيمية يدخل السجن مرات ومرات ولم تكن هناك قنوات ولا إعلام، ويموت في السجن، ولكن أبى الله إلا أن يرفع ذكره فوق كثيرٍ من العلماء على مر الزمن.
- تذكر أن الشهرة قد تكون استدراج من الله ليمتحنك الله في مواطن أخرى، وقد قال الإمام أحمد في قصة فتنة خلق القرآن لما قيل له إن الناس يدعون لك فقال: أخشى أن يكون هذا استدراج بأي شيء هذا.
- من سلبيات الشهرة والأضواء:
١- أن المرء يصعب عليه قبول النقد والتصحيح لأنه يستقبل سيلاً كبيراً من المادحين والمعجبين فكيف ينصت للناقدين؟ بل لعله يتجاهل نقدهم ويصفهم بأنهم لا يدركون الدعوة ولا يحبون الدعاة!
٢- صعوبة الاعتراف بالخطأ أمام الملأ والبحث عن أعذار لتبرر خطأه.
٣- صعوبة قول لا أدري لأنها تنقص قدره أمام الشاشات والجماهير.
٤- شعور نفسي مستمر في محبة انتشار الصيت والأخبار عنك وعن جهودك.
٥- الشهرة تبعدك عن محاسبتك لنفسك غالباً وتقنعك بصحة مسيرتك وجودة برامجك وأنك أنت الصواب دائماً، وأما البقية فعندهم ملاحظات.
٦- ومن سلبيات الأضواء أنها تجعلك تعيش في عالم الثناء غالباً في كل مشهد، وهذا بلا شك يؤثر على النفس ولو بعد حين.
٧- قد تكره أن يتميز غيرك بحب الناس له والتفافهم حوله وكثرة الحديث عنه لأنك تريد بقاء صورتك في الأذهان.
إشراقات:
- لا تنشر كل أعمالك في مواقع التواصل واكتم بعضها لتذوق ما يسمى بإخفاء الأعمال.
- يمكنك إظهار بعض عملك بشرط أن يكون قصدك منه الانتفاع والاقتداء لا أن يرتفع اسمك في القلوب والفرق بينهما واضح.
- لا تتحدث عن نفسك كثيراً والتزم الصمت.
قال عمر بن عبدالعزيز: إنه ليمنعني من الكلام مخافة المباهاة.
- لا تتحدث في كل مجلس حتى تعالج نفسك التي تحب الظهور دوماً في كل مجلس، وتعلّم أن تنصت لغيرك ولو كان من عامة الناس والبسطاء.
- تزدادُ القضية ألماً حينما ترى صغار الشباب من طلاب الجامعات أو الثانويات وغيرهم قد بدأوا ينزلون لمنازل الشهرة والتصدر ويوسعون دائرة نشر أعمالهم وبرامجهم اقتداءً بفلان وغيره، وهم لازالوا في الطلب، وأنا هنا لستُ ضد احترام المواهب والقدرات وتفعيل الهمم، ولكني احذر الشباب من النزول لمواطن الشهرة عبر النشر السريع، ورسالتي لك يا طالب العلم: انتظر حتى ترسخ في العلم وتثبت قدمك وتفهم واقعك أكثر وتتشرب من الوحي أكثر لكي تكون أرسخ علماً وحكمةً وجودةً حينما تنزل للميدان.
- من المهم الجلوس مع العلماء والأتقياء والدعاة المخلصون الذين ترى في وجههم آثار الآخرة، ولا شك أن المرء ينتفع بالرؤية والمخالطة أكثر من الانتفاع بقراءة الكتب.
ختاماً، لا تخادع نفسك، ولا تنخدع بالتفاف الناس حولك ومزاحمتهم حول رأسك لتقبيله، ولا تفكر في عدد متابعيك في مواقع التواصل، واتصل بالله وانقطع إليه في فتراتٍ من عمرك، وامنح نفسك العزلة في بعض الساعات لتذوق حلاوة الخلوة مع الله.
ومضة: قال أحد الدعاة: اللهم لا تجعلني جسراً يعبر الناس به إلى الجنة ويُلقى بي في النار.
مواد آخرى من نفس القسم
مكتبة الصوتيات
الدعوة
0:00
وصايا للطلاب
0:00
آداب المشي إلى الصلاة
0:00
القرآن نور
0:00
العلاقات الأسرية
0:00
عدد الزوار
5077596
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 27 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1611 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |