• الاربعاء 6 شَعْبان 1446 هـ ,الموافق :05 فبراير 2025 م


  • 10 أشياء تمنع قبول الحق عند بعض الناس






  • من المباحث الرائعة لابن القيم في كتابه الجميل ( مفتاح دار السعادة 1 / 266 ) ماذكره من أسباب عدم قبول بعض الناس للعلم والحق والهدى.

    قال رحمه الله تعالى: العلمَ بكون الشيء سببًا لمصلحة العبد ولذَّته وسروره قد يتخلَّفُ عنه عملُه بمقتضاه، لأسبابٍ عديدة:

    السببُ الأول: ضعفُ معرفته بذلك.

    السببُ الثاني: عدمُ الأهليَّة، وقد تكونُ معرفتُه به تامة، لكن يكونُ مشروطًا بزَكاء المحلِّ وقبوله للتزكية، فإذا كان المحلُّ غير زكيٍّ ولا قابلٍ للتزكية كان كالأرض الصَّلْدَة التي يخالطُها الماء، فإنه يمتنعُ النباتُ منها؛ لعدم أهليتها وقبولها.

    فإذا كان القلبُ قاسيًا حَجَريًّا، لا يقبلُ تزكيةً ولا تُؤثِّرُ فيه النصائح، لم ينتفع بكلِّ علمٍ يعلمُه، كما لا تنبتُ الأرضُ الصلبة ولو أصابها كلُّ مطر، وبُذِرَ فيها كلُّ بَذْر.

    كما قال تعالى في هذا الصنف من الناس: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: ٩٦ - ٩٧]، وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الأنعام: ١١١].

    فإذا كان القلبُ قاسيًا غليظًا جافيًا لا يعملُ فيه العلمُ شيئًا، وكذلك إذا كان مريضًا مَهِينًا مائيًّا لا صلابةَ فيه ولا قوةَ ولا عزيمة لم يؤثِّر فيه العلم.

    السببُ الثالث: قيامُ مانع؛ وهو إمَّا حسدٌ أو كِبْر، وذلك مانعُ إبليس من الانقياد للأمر، وهو داءُ الأولين والآخرين إلا من عصم الله، وبه تخلَّف الإيمانُ عن اليهود الذين شاهدوا رسول الله ﷺ وعرفوا صحةَ نبوَّته ومن جرى مجراهم، وهو الذي منع عبد الله بن أبيٍّ من الإيمان، وبه تخلَّفَ الإيمانُ عن أبي جهلٍ وسائر المشركين؛ فإنهم لم يكونوا يرتابون في صدقه وأنَّ الحقَّ معه، ولكنْ حملهم الكِبْرُ والحسدُ على الكفر، وبه تخلَّفَ الإيمانُ عن أميَّة وأضرابه ممن كان عنده علمٌ بنبوَّة محمد ﷺ.

    السببُ الرابع: مانعُ الرياسة والمُلْك، وإن لم يَقُم بصاحبه حسدٌ ولا تكبُّر عن الانقياد للحقِّ، لكن لا يمكنُ أن يجتمع له الانقيادُ ومُلْكُه ورياستُه، فيَضِنُّ بمُلْكِه ورياسته؛ كحال هِرَقل وأضرابه من ملوك الكفار الذين علموا بنبوَّته وصِدْقه، وأقرُّوا بها باطنًا، وأحبُّوا الدخول في دينه، لكن خافوا على مُلْكهم.

    وهذا داءُ أرباب المُلْك والولاية والرياسة، وقلَّ من نجا منه إلا من عصم الله، وهو داءُ فرعون وقومه، ولهذا قالوا: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ﴾ [المؤمنون: ٤٧]؛ أَنِفُوا أن يؤمنوا ويتبعوا موسى وهارون وينقادوا لهما وبنو إسرائيل عبيدٌ لهم.

    ولهذا قيل: إنَّ فرعون لما أراد متابعةَ موسى وتصديقَه شاورَ هامان وزيرَه، فقال: بينا أنت إلهٌ تُعْبَدُ تصيرُ عبدًا تعبُد غيرَك! فأبى العبوديَّةَ واختار الرياسةَ والإلهيَّة المُحال.

    السببُ الخامس: مانعُ الشهوة والمال؛ وهو الذي منع كثيرًا من أهل الكتاب من الإيمان، خوفًا من بطلان مآكلهم وأموالهم التي تصيرُ إليهم من قومهم.

    وقد كانت كفارُ قريش يصدُّون الرجلَ عن الإيمان بحسب شهوته، فيدخلونَ عليه منها؛ فكانوا يقولون لمن يحبُّ الزِّنا والفواحش: إنَّ محمدًا يحرِّم الزِّنا، ويحرِّم الخمر؛ وبه صدُّوا الأعشى الشاعر عن الإسلام.

    وقد فاوضتُ غير واحدٍ من أهل الكتاب في الإسلام وصحَّته، فكان آخر ما كلَّمني به أحدهم: أنا لا أتركُ الخمر، وأشربُها آمنًا، فإذا أسلمتُ حُلْتُم بيني وبينها وجلدتموني على شربها.

    ولا ريب أنَّ هذا القَدْرَ في نفوس خلقٍ كثيرٍ من الكفار، فتتفقُ قوةُ داعي الشهوة والمال، وضعفُ داعي الإيمان، فيجيبُ داعي الشهوة والمال، ويقول: لا أرغبُ بنفسي عن آبائي وسلفي.

    السببُ السادس: محبةُ الأهل والأقارب والعشيرة؛ يرى أنه إذا اتبعَ الحقَّ وخالفهم أبعدوه وطردوه عنهم وأخرجوه من بين أظهرهم، وهذا سببُ بقاء خلقٍ كثيرٍ على الكفر بين قومهم وأهاليهم وعشائرهم.

    السببُ السابع: محبةُ الدار والوطن، وإن لم يكن له بها عشيرةٌ ولا أقارب، لكن يرى أنَّ في متابعة الرسول خروجَه عن داره ووطنه إلى دار الغُربة والنَّوى، فيَضِنُّ بوطنه وداره.

    السببُ الثامن: تخيُّله أنَّ في الإسلام ومتابعة الرسول إزراءً وطعنًا منه على آبائه وأجداده وذمًّا لهم، وهذا هو الذي منعَ أبا طالبٍ وأمثاله عن الإسلام؛ استعظموا آباءهم وأجدادَهم أن يشهدوا عليهم بالكفر والضلال وأن يختاروا خلافَ ما اختار أولئك لأنفسهم، ورأوا أنهم إن أسلموا سفَّهوا أحلامَ أولئك، وضلَّلوا عقولهم، ورموهم بأقبح القبائح وهو الكفر والشرك.

    ولهذا قال أعداء الله لأبي طالبٍ عند الموت: أترغبُ عن ملَّة عبد المطلب؟! فكان آخرَ ما كلَّمهم به: « هو على ملَّة عبد المطَّلب »، فلم يَدْعُه أعداءُ الله إلا من هذا الباب؛ لعلمهم بتعظيمه أباه عبد المطلب، وأنه إنما حاز الفخرَ والشَّرف به، فكيف يأتي أمرًا يلزمُ منه غايةُ تنقيصه وذمِّه؟

    السببُ التاسع: متابعةُ من يعاديه من الناس للرسول، وسبقُه إلى الدخول في دينه، وتخصُّصه وقربُه منه.

    وهذا القَدْرُ منع خلقًا كثيرًا من اتباع الهدى؛ يكونُ للرجل عدوٌّ يُبْغِضُ مكانَه، ولا يحبُّ أرضًا يمشي عليها، ويقصدُ مخالفتَه ومناقضتَه، فيراه قد اتبعَ الحقَّ، فيحملُه قصدُ مناقضته ومعاداته على معاداة الحقِّ وأهله، وإن كان لا عداوةَ بينه وبينهم.

    وهذا كما جرى لليهود مع الأنصار؛ فإنهم كانوا أعداءهم، وكانوا يتواعدونهم بخروج النبي ﷺ، وأنهم يتَّبعونه ويقاتلونهم معه، فلمَّا بَدَرَهم إليه الأنصارُ وأسلموا حملهم معاداتُهم على البقاء على كفرهم ويهوديَّتهم.

    السببُ العاشر: مانعُ الإلْفِ والعادة والمنشأ؛ فإنَّ العادةَ قد تقوى حتى تغلبَ حكمَ الطبيعة، ولهذا قيل: « هي طبيعةٌ ثانية » ؛ فيُربَّى الرجلُ على المقالة ويُنشَّأُ عليها صغيرًا، فيتربَّى قلبُه ونفسُه عليها كما يتربَّى لحمُه وعظمُه على الغذاء المعتاد، ولا يعقلُ نفسَه إلا عليها، ثمَّ يأتيه العلمُ وهلةً واحدةً يريدُ إزالتها وإخراجَها من قلبه وأن يسكنَ موضعَها، فيعسرُ عليه الانتقال، ويصعبُ عليه الزوال.

    فصلواتُ الله وسلامه على أنبيائه ورسله، خصوصًا على خاتمهم وأفضلهم محمد ﷺ؛ كيف غيَّروا عوائد الأمم الباطلة، ونقلوهم إلى الإيمان، حتى استحدثوا به طبيعةً ثانيةً خرجوا بها عن عادتهم وطبيعتهم الفاسدة، ولا يعلمُ مشقَّة هذا على النفوس إلا من زاولَ نقلَ رجلٍ واحدٍ عن دينه ومقالته إلى الحقِّ؛ فجزى الله المرسلين أفضلَ ما جازى به أحدًا من العالمين.


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    فضل التوحيد

    0:00

    تلاوة من سورة الحج

    0:00

    كفالة اليتيم وصلاح القلوب

    0:00

    من أحكام سجود السهو

    0:00

    وقفات تربوية في التسامح

    0:00



    عدد الزوار

    5245449

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 29 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1627 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة