قال ابن القيم رحمه الله تعالى : الروحُ في هذا الجسد بدارِ غُربة، ولها وطنٌ غيره فلا تستقرُّ إلا في وطنها، وهي جوهرٌ عُلْوِيٌّ مخلوقٌ من مادةٍ عُلْوِيَّة، وقد اضطرَّت إلى مساكنة هذا البدن الكثيف، فهي دائمًا تطلبُ وطنها في المحلِّ الأعلى، وتحنُّ إليه حنينَ الطير إلى أوكارها.
وكلُّ روحٍ ففيها ذلك، ولكن لفرط اشتغالها بالبدن وبالمحسوسات المألوفة أخلدت إلى الأرض، ونسيت محلَّها ووطنها الذي لا راحة لها في غيره؛ فإنه لا راحة للمؤمن دون لقاء ربِّه، والدنيا سجنُه حقًّا، فلهذا تجدُ المؤمنَ بدنُه في الدنيا وروحُه في المحلِّ الأعلى.
فأعظمُ عذاب الروح انغماسُها وتدسيسُها في أعماق البدن، واشتغالُها بملاذِّه، وانقطاعُها عن ملاحظة ما خُلِقَت له وهُيِّئت له، وعن وطنها ومحلِّ أُنسِها ومنزل كرامتها، ولكنَّ سُكْرَ الشهوات يحجُبها عن مطالعة هذا الألم والعذاب.
فإذا صَحَت من سُكْرها، وأفاقت من غمرتها، أقبلَت عليها جيوشُ الحسرات من كلِّ جانب؛ فحينئذٍ تتقطَّعُ حسراتٍ على ما فاتها من كرامة الله وقربه والأُنس به، والوصول إلى وطنها الذي لا راحة لها إلا فيه،
ولهذا كان المؤمنُ غريبًا في هذه الدار، أين حلَّ منها فهو في دار غُربة، كما قال النبيُّ ﷺ: ( كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل )، ولكنها غُربةٌ تنقضي ويصيرُ إلى وطنه ومنزله، وأما الغُربةُ التي لا يُرجى انقطاعُها فهي غُربةٌ في دار الهوان، ومفارقةُ وطنه الذي كان قد هيِّاء له وأُعِدَّ له وأُمِرَ بالتجهُّز إليه والقدوم عليه، فأبى إلا اغترابَه عنه ومفارقتَه له، فتلك غربةٌ لا يُرجى إيابُها ولا يُجْبَرُ مصابُها.
ولا تبادِر إلى إنكار كون البدن في الدنيا والروح في الملإ الأعلى؛ فللرُّوح شأنٌ وللبدن شأن، والنبيُّ ﷺ كان بين أظهُر أصحابه وهو عند ربِّه يطعمُه ويسقيه فبدنُه بينهم وروحُه وقلبه عند ربِّه. مفتاح دار السعادة ١/ ٤٢٢
مواد آخرى من نفس القسم
عدد الزوار
5243605
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 29 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1627 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |