• الخميس 23 شَوّال 1445 هـ ,الموافق :02 مايو 2024 م


  • لا تحرق نفسك مع هؤلاء


  •  

    أنا لستُ سلبياً ولكني أحبُ النقاش الواقعي وخاصةً في القضايا الاجتماعية، لأني وجدتُ مِن خلال عشراتِ الاستشارات أن هناكَ ندماً كبيراً عند الأشخاص الذين ضحّوا للآخرين واحترقوا لأجلهم، ولكن الطرف الآخر ترك كل شيء لما وجد البديل المناسب له.

    وحتى تتضح الفكرة فتعال معي لهذه التطبيقات الواقعية:

    أولاً: ذلك الأب الذي يحرقُ نفسه لأجل أولاده وبناته، فتراهُ يعملُ في الليل والنهار لكي يوفر لهم المال، وفي نفسِ الوقت نسي نفسه، فالضغوط أحاطت به مِن كلِ جانب، وربما عاشَ في قلةِ مالٍ، مع أنه يشتري لأسرته الكماليات الفاخرة ويحرمُ نفسهُ منها، وقد رأيتُ دموعَ آباء وقعوا في ذلك الاحتراق.

    والخطأ ليس في أصل الاهتمام، لأننا كلنا نهتم بأسرتنا بفطرتنا وبما أوجبه الله علينا في رعاية الأسرة، كما في الحديث " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " رواه البخاري.

    ولكن الخطأ في المبالغة في الاهتمام على حساب أن ينسى الأب نفسه من المباح والترفيه والنوم الكافي والاستمتاع بالحياة.

    ولقد رأيتُ بعض الأبناء والبنات قد نسوا احتراق والدهم لما كبروا، ولعلهم يعيشون في ترفٍ وظيفي ومع ذلك فإن والدهم الآن يعيش في ظروفٍ سيئةٍ عجيبة، فيا أيها الأب لا تحرق نفسك، لأنهم سينسونك حينما يأتي البديل من المال أو الصديق أو غيرها من زينة الحياة.

    قصة قصيرة: زارني رجلٌ يبكي يريد مبلغ 150 ريال، ولديه ثلاثة أولاد موظفون برواتب يصل مجموعها لنحو 50 ألف، وأعرفهم جيداً، لقد عرفتهُ قبل سنوات لما كان أولاده صغاراً كيف تعبَ عليهم، وها هو الآن يمسح دموع الفقر عند الآخرين لأن أولاده أهملوه.

    قصة أخرى: أحد الإخوة توقفت زوجته عن الإنجاب لظروفٍ صحية، ويرغب في إنجاب الولد فتزوج بأخرى وقد أكرم الأولى بمنزلٍ لها، وبعد زواجه بالثانية تقوم ابنته الكبرى بإرسال رسائل سيئة جداً لوالدها، مع أنه تعب عليها كثيراً حتى توظفت في وظيفة رائعة، وتزوجت، والآن ولمدة تزيد على السنة لا تكلمه وقد حظرها من جواله لسوء أدبها، إنه نموذج قد يتكرر وللأسف.

    قصة ثالثة: أحد الإخوة طلّق زوجته بعد معاناةٍ طويلةٍ معها، وبعد أن تزوج وعاش السعادة مع زوجته الثانية، بدأ بناتها بإرسال الرسائل السيئة واتهام زوجته الثانية بأشياء باطلة، وبدأن بمطالبته بأموالٍ يعجزُ عنها لكي يعيشوا في ترفٍ، ويعيش الفقر والهموم والديون، وهذه القصة تكررت كثيراً لبعض المُطلّقين وللأسف.

    إنها قصص الاحتراق التي تذوب منها الأكباد، مِن عقوق الأبناء والبنات، فأين هم عن وصايا الرب في كتابه الكريم " وبالوالدين إحساناً " ، " واخفض لهما جناحَ الذُلِ مِن الرحمة ".

    ثانياً: ذلك الزوج الذي يحاول بكل ما يملك أن يسعدَ زوجته فتراه يراعي مشاعرها، ويهتم بتفاصيلها، وربما اقترض لأجل أسفارها ورغباتها، وفي الوقتِ نفسه، هي لا تبادله ذلك الشعور لأنها متكبرة بذاتها، نرجسية الطباع، ولقد استمعتُ لعشرات الاستشاراتِ مِن هذا النوع، وفي النهاية فإن هذا النوع مِن النساء لا تُقدِّر ذلك الزوج الحنون الكريم، بل ترمي به جانباً إذا جاء البديل المناسب عبر مواقع التواصل، أو غير ذلك من ألوان المتاع المحرم.

    مسكينٌ أنتَ أيها الزوج، فوصيتي لك لا تحرق نفسك، واعتن بنفسك، وكن حكيماً في تعاملك مع زوجتك، ولا تبذل مالَك لهواياتها، واحفظ مالَك لنفسكَ وللمرأةِ التي تُقدرك وتحترمكَ وتُراعي ظروفك، فهي البديل المناسبُ لك.

    ثالثاً: تلك الزوجة العفيفة الصالحة الكريمة التي وافقت على ذلك الزوج، لترعاه وتخدمه وتتعامل معه بكل إحسان، ولكنه لم يكن يستحق ذلك، فهو في وادٍ آخر من الاهتمامات، يهتمُ ببناتٍ أخرياتٍ يظهرونَ في مواقعِ التواصلِ، ويتابعُ التافهات ويبدي إعجابهُ بهنّ، يسهرُ كثيراً خارج البيت، يبخلُ بماله عنها ولكنهُ يكرمُ الزملاء أو الزميلات، فمثل هذا لا يستحقُ أن تبقي معه لحظة واحدة، فلماذا تحرقين نفسكَ معَ الرجلِ الذي رغبَ في البديلِ السيء وتركَ الجوهرةَ الثمينة؟

    رابعاً: بعض الإخوة يتحمسُ للصداقةِ ولكن مع الشخص غيرَ المناسب، فتراه يهتمُ بصديقه ويُضحي مِن أجله، وقد يصرفُ وقتهُ معه، وقد يقترضُ لأجله، ولكنه يشعرُ بالصدمةِ حينما يتخلى ذلك الصديق عنه بدون أي سبب.

    قصة: أحد الزملاء أقرضَ صديقهُ نصف مليون ريال، ولم يكتب عليه أي إثبات لأنه صديق الروح الذي عاشَ معهُ في مكتبِ العمل نحو 15 سنة كما أخبرني، وبعد سنة وإذ بذاك الصديق يجحدُ المبلغ، ثم يرفع صاحبي دعوى في المحكمة يطالبُ بحقه، ويأتي موعدُ الجلسة ولم يكن عند صديقي إلا اليمين على المُدّعى عليه، وفعلاً حلفَ أمامَ القاضي بأنهُ لم يستلم ريالاً واحداً منه، فما كان من صاحبي إلا أن أصيبَ بصدمةٍ نفسيةٍ لا يحتملها إلا أكابرَ الرجال.

    يا صديقي، أنا أحبُ الأصدقاء، ولكني اختار منهم، وفي نفسِ الوقت أكتشف من يستحق البقاء في القلب ومن يستحق أن أمسح رقمهُ من هاتفي، لأنه سيُضحي بي حينما يجدُ البديل المناسب.

    خامساً: وأنتَ في وظيفتك، لا تُحرق نفسكَ لتلكَ الشركةِ أو المؤسسةِ أو القسمِ أو المحلِ الذي تعملُ فيه.

    لقد رأيتُ بعض الموظفين الذين يبذلون وقتهم كله حتى في خارج الدوام لوظيفتهم، ومنهم مَن يأتي قبل وقت الدوام مِن محبته وإخلاصه، ومنهم مَن يأخذ أعمال غيره لينجزها، ومنهم من يسعى في خدمة مديره سعياً حثيثاً، وكل ذلك جميل إلى حدٍ ما، ولكن أن يصلَ الأمرُ لأن تتعبَ نفسك، وترهق صحتك، وربما فاتك بعض الوقت لأسرتك أو لنفسك في الترفيه المناسب، فهذا لا أوافقك عليه، لأنكَ بالغتَ في الاهتمامِ بوظيفتك.

    والصدمة الكبرى أنكَ حينما تَطلب إجازة تجدُ التسويفَ مِن المدير، لأنك متميز ويرغبُ في تكليفكَ بعملٍ أكثر، ليستمتع بالإجازةِ ذلكَ الموظف الكسول.

    وقد تتعجب في وقتٍ ما، حينما يختار المديرُ البديلَ عنك، بسببِ أهواءه التي نزغه الشيطان إليها، أو بسبب وشاية مِن الحاسدين لنجاحك.

    ختاماً، أتمنى ألّا تذهب بخيالك بعيداً وتتحول إلى شخصٍ سلبي معَ الجميع، فهذا ليس مرادي، ولكن المراد أن تنتبه لنفسك، لصحتك، لمشاعرك، لمالك، لوقتك، لكل شيء عندك، وأن تعلمَ أن أعظمَ شخص في الوجودِ هو أنت وليس غيرك، مهما كان.

    نعم نحن نحب الخير للأسرةِ وللناسِ ونضحي لهم ونبذلُ لهم ما نقدر عليه، ولكن يجب أن يكونَ ذلكَ في حدودِ مقدرتنا، ومعَ الشخصِ الذي يستحقُ أن نحترقَ له.

    وأما أن نحترق ونُصبحُ رماداً في صحراءِ الحياة فهذا لا أريدهُ لي ولا لك.


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    قصة الكتاب

    0:00

    ليس بينها وبينه حجاب

    0:00

    من خصائص ليالي رمضان

    0:00

    صلاح القلوب

    0:00

    مشاهد من يوم القيامة

    0:00



    عدد الزوار

    4176732

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 21 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 92 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1591 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 996 ) مادة