• الاربعاء 29 رَجَب 1446 هـ ,الموافق :29 يناير 2025 م


  • حديث " الجوع يا رسول الله "

  •  

    عن أبي هُريرةَ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّه ﷺ ذاتَ يَوْمٍ -أَوْ لَيْلَةٍ- فَإِذا هُوَ بِأَبي بَكْرٍ وعُمَرَ رضي اللَّه عنهما ، فَقَالَ: مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ ؟
    قَالا: الجُوعُ يَا رَسولَ اللَّه ، قالَ : وَأَنا ، والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لأَخْرَجَني الَّذِي أَخْرَجَكُما ، قُوما ، فقَاما مَعَهُ ، فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الأَنْصارِ، فَإِذَا هُوَ لَيْسَ في بيتهِ ، فَلَمَّا رَأَتْهُ المَرْأَةُ قالَتْ : مَرْحَبًا وَأَهْلًا.
    فقال لَهَا رَسُولُ اللَّه ﷺ : أَيْنَ فُلانٌ ؟
    قالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الماءَ ، إِذْ جاءَ الأَنْصَاريُّ ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّه ﷺ وَصَاحِبَيْهِ ، ثُمَّ قالَ : الحَمْدُ للَّه، مَا أَحَدٌ اليَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيافًا مِنِّي، فانْطَلقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وتَمْرٌ ورُطَبٌ ، فَقَالَ: كُلُوا، وَأَخَذَ المُدْيَةَ .
    فَقَالَ لَهُ رسُولُ اللَّه ﷺ: إِيَّاكَ وَالحَلُوبَ، فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأَكلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذلكَ العِذْقِ وشَرِبُوا، فلمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَووا .
    قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ لأَبي بكرٍ وعُمَرَ رضي اللَّه عنهما: وَالَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هذَا النَّعيمِ يَوْمَ القِيامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هذا النَّعِيمُ  . رواه مسلم .

    هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد :

    1- فيه ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه رضي الله عنهم من التقلل من الدنيا، وما ابتلوا به من الجوع وضيق العيش في أوقات، وقد زعم بعض الناس أن هذا كان قبل فتح الفتوح والقرى عليهم، وهذا زعم باطل ؛ فإن راوي الحديث أبو هريرة، ومعلوم أنه أسلم بعد فتح خيبر، فإن قيل : لا يلزم من كونه رواه أن يكون أدرك القضية ، فلعله سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره .
    فالجواب : أن هذا خلاف الظاهر ولا ضرورة إليه، بل الصواب خلافه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزل يتقلب في قلة المال حتى توفي صلى الله عليه وسلم ، فتارة يوسر ، وتارة ينفد ما عنده ، كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة : " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير " ، وعن عائشة : " ما شبع آل محمد صلى الله عليه وسلم منذ قدم المدينة من طعام ثلاث ليال تباعا حتى قبض " ، و " توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله "، وغير ذلك مما هو معروف .

    فكان النبي صلى الله عليه وسلم في وقت يوسر، ثم بعد قليل ينفد ما عنده لإخراجه في طاعة الله من وجوه البر، وإيثار المحتاجين، وضيافة الطارقين، وتجهيز السرايا ، وغير ذلك .
    وهكذا كان خلق صاحبيه رضي الله عنهما، بل أكثر أصحابه، وكان أهل اليسار من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم مع برهم له صلى الله عليه وسلم وإكرامهم إياه وإتحافه بالطرف وغيرها، ربما لم يعرفوا حاجته في بعض الأحيان ؛ لكونهم لا يعرفون فراغ ما كان عنده من القوت بإيثاره به ، ومن علم ذلك منهم ربما كان ضيق الحال في ذلك الوقت كما جرى لصاحبيه ، ولا يعلم أحد من الصحابة علم حاجة النبي صلى الله عليه وسلم وهو متمكن من إزالتها إلا بادر إلى إزالتها ، لكن كان صلى الله عليه وسلم يكتمها عنهم إيثارا لتحمل المشاق ، وحملا عنهم .

    وقد بادر أبو طلحة حين قال : " سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف فيه الجوع " إلى إزالة تلك الحاجة .

    ‏2 - وأما قولهما رضي الله عنهما : " أخرجنا الجوع " ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما " فمعناه : أنهما لما كانا عليه من مراقبة الله تعالى ، ولزوم طاعته ، والاشتغال به ، فعرض لهما هذا الجوع الذي يزعجهما ، ويقلقهما ، ويمنعهما من كمال النشاط للعبادة ، وتمام التلذذ بها سعيا في إزالته بالخروج في طلب سبب مباح يدفعانه به ، وهذا من أكمل الطاعات ، وأبلغ أنواع المراقبات  .

    3 - ‏وقوله : ( بيوتكما ) هو بضم الباء وكسرها ، وقوله صلى الله عليه وسلم : " وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما " .
    وفيه جواز ذكر الإنسان ما يناله من ألم ونحوه ، لا على سبيل التشكي وعدم الرضا ، بل للتسلية والتصبر ، كفعله صلى الله عليه وسلم هنا ، ولالتماس دعاء أو مساعدة على التسبب في إزالة ذلك العارض ، فهذا كله ليس بمذموم ، إنما يذم ما كان تشكيا وتسخطا وتجزعا .

    ‏5 - وقوله صلى الله عليه وسلم : وأنا والله ، وفيه جواز الحلف من غير استحلاف .

    6 - ‏وقوله : ( فأتى رجلا من الأنصار ) هو أبو الهيثم ، وفيه جواز الإدلال على الصاحب الذي يوثق به، واستتباع جماعة إلى بيته ، وفيه منقبة لأبي الهيثم؛ إذ جعله النبي صلى الله عليه وسلم أهلاً لذلك وكفى به شرفا ذلك .

    7 - ‏وقوله : ( فقالت : مرحبا وأهلا ) كلمتان معروفتان للعرب ، ومعناه : صادفت رحبا وسعة وأهلا تأنس بهم ، وفيه استحباب إكرام الضيف بهذا القول وشبهه ، وإظهار السرور بقدومه ، وجعله أهلا لذلك ، كل هذا وشبهه إكرام للضيف ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " .

    8 - وفيه جواز سماع كلام الأجنبية ومراجعتها الكلام للحاجة .

    9 - وجواز إذن المرأة في دخول منزل زوجها لمن علمت علماً محققا أنه لا يكرهه بحيث لا يخلو بها الخلوة المحرمة .

    10 - ‏وقولها : ( ذهب يستعذب لنا الماء ) أي : يأتينا بماء عذب ، وهو الطيب.

    11 - ‏قوله : ( الحمد لله ، ما أحد اليوم أكرم ضيفا مني ) فيه فوائد ، منها : استحباب حمد الله تعالى عند حصول نعمة ظاهرة ، وكذا يستحب عند اندفاع نقمة كانت متوقعة ، وفي غير ذلك من الأحوال .

    12 - ومنها استحباب إظهار البشر ، والفرح بالضيف في وجهه ، وحمد الله تعالى وهو يسمع على حصول هذه النعمة ، والثناء على ضيفه إن لم يخف عليه فتنة ، فإن خاف لم يثن عليه في وجهه .

    13 - وفيه دليل على كمال فضيلة هذا الأنصاري وبلاغته وعظيم معرفته؛ لأنه أتى بكلام مختصر بديع في الحسن في هذا الموطن رضي الله عنه .

    ‏14 - قوله : ( فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، فقال : كلوا من هذه ) العذق هنا بكسر العين، وهي الغصن من النخل ، وإنما أتى بهذا العذق الملون ليكون أطرف ، وليجمعوا بين أكل الأنواع ، فقد يطيب لبعضهم هذا ولبعضهم هذا .
    وفيه دليل على استحباب تقديم الفاكهة على الخبز واللحم وغيرهما ، وفيه استحباب المبادرة إلى الضيف بما تيسر .

    وقد كره جماعة من السلف التكلف للضيف ، وهو محمول على ما يشق على صاحب البيت مشقة ظاهرة ؛ لأن ذلك يمنعه من الإخلاص وكمال السرور بالضيف ، وربما ظهر عليه شيء من ذلك فيتأذى به الضيف ، وقد يحضر شيئاً يعرف الضيف من حاله أنه يشق عليه ، وأنه يتكلفه له فيتأذى لشفقته عليه ، وكل هذا مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه " ؛ لأن أكمل إكرامه إراحة خاطره ، وإظهار السرور به .

    وأما فعل الأنصاري وذبحه الشاة فليس مما يشق عليه ، بل لو ذبح أغناما بل جمالا وأنفق أموالا في ضيافة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما كان مسرورا بذلك مغبوطا فيه ، والله أعلم .

    15 - ‏قوله : ( فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : والذي نفسي بيده ، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة ) فيه دليل على جواز الشبع ، وما جاء في كراهة الشبع فمحمول على المداومة عليه ؛ لأنه يقسي القلب وينسي أمر المحتاجين ، وأما السؤال عن هذا النعيم فقال القاضي عياض : المراد السؤال عن القيام بحق شكره ، والذي نعتقده أن السؤال هنا سؤال تعداد النعم وإعلام بالامتنان بها ، وإظهار الكرامة بإسباغها لا سؤال توبيخ وتقريع ومحاسبة ، والله أعلم .


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    فقه النفوس

    0:00

    رمضان والإعلام

    0:00

    قنوت ليلة الواحد والعشرون

    0:00

    سورة ص

    0:00

    إيجادل البديل من القنوات

    0:00



    عدد الزوار

    5206495

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 29 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1627 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة