• السبت 21 جُمادى الأولى 1446 هـ ,الموافق :23 نوفمبر 2024 م


  • 28 مفتاح في تنمية الملكة الفقهية

  •  

     

    إن من العلوم المهمة علم الفقه، وهو معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، وطالب العلم لابد أن يبني نفسه في المجال الفقهي بشكل متين، لحاجة الأمة له، لأنه أساس مهم في معرفة الحلال والحرام.

    وعلم الحلال والحرام هو أكثر ما يَسألُ عنه جمهور الناس في حياتهم سواء عبر هواتف أهل العلم أو عبر برامج الفتاوي في القنوات، أو في المساجد والملتقيات.

    ولهذا قلّ أن تجد من يسألك عن صحة حديث أو مسألة في العقيدة أو تفسير آية - مع أهمية هذه العلوم - ولكن الناس تتطلع نفوسهم للأسئلة العملية التي تجري في حياتهم.

    ومن هذا المنطلق جمعتُ بعض القواعد والمفاتيح في بناء المَلَكة الفقهية لطالب العلم التي تعينه بإذن الله على السير في هذا المشوار العلمي المهم، وهذه المعلومات تم تلخيصها من بعض المحاضرات والكتب التي تناولت هذا الموضوع.

     تعريف مختصر للملكة الفقهية:

    1 - المَلَكة صفة في النفس، تعين الشخص على سرعة البديهة في فهم الموضوع وإعطاء الحكم الخاص به، والتمييز بين المتشابهات بإبداء الفروق والموانع، والجمع بينها بالعلل والأشباه والنظائر وغير ذلك.

    2 - الملَكة صفة مكتسبة وموهوبة، تتحقق للشخص بالاكتساب والموهبة، فاكتسابها يتحقق بالإحاطة بمبادئ العلم وقواعده.

    وقيل: هي صفة يُقتدر بها على استنتاج الأحكام من مآخذها.

    وقد فصّل القول فيها بعض المعاصرين حينما قال: القدرة على النظر في الأدلة، وكيفية استنباط الأحكام منها، حتى لا تكاد تعرِض عليه حادثة من الحوادث إلا أمكن أن يعطيها ما يليق بها من الأحكام، فضــلاً عن أنه بعد ذلك تطمــئن نفسه إلى ما يعــمل به من أحكام أو يفتي به غيـــره، أو يقضي به بين النــاس، إذ لا يُقـــدِم على ذلك إلا وهو يعلم الدليل على ما أقدم عليه.

    ويمكن أن نقول في توضيح معناها: هي تدريب المتفقه على ضبط الفقه وأن يترقى في فهم العلم، وأن يتدرب ويتمرن بالتفكير العلمي في استخراج الأحكام من النصوص من خلال القواعد التي درسها.

    وعكس الملَكة الفقهية أن يكون الطالب على جهل بالفقه وقواعد الشريعة وأصول الاستنباط وقواعد الأحكام التي تجعله يقع في المشكلات العلمية والأجوبة البعيدة عن الصواب.

    وكم رأينا في زمننا من فشو التعالم، وجرأة الجاهل في الفتوى، مع البعد عن آلة العلم، مع تحكيم الهوى على النص، والإتيان بفهمٍ جديد لا يتناسب مع روح الشريعة ومصالحها.

    مفاتيح في تنمية الملكة الفقهية لدى طالب العلم:

    ١- ملازمة التقوى وتعظيم الرب تبارك وتعالى، يقول تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجاً).

    إن طالب العلم الذي يعيش في ظلال التقوى يشعر بالفتوحات الربانية تنهال عليه، لأن من صدق مع الله في طلب العلم رزقه الله التوفيق والسداد في سائر علومه وحياته.

    والناظر في سير العلماء الربانين يجد أنهم كانوا على تقوى وخشية من الله، وفي نفس الوقت حازوا من العلم والرسوخ ما يشهد به كل من قرأ لهم، لأن الله مع المتقين برعايته ولطفه وتوفيقه.

    قال تعالى (إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً) ويدخل فيه: الفرقان في العلم ومعرفة الراجح من المرجوح.

    وقال تعالى (والذين اهتدوا زادهم هدى) ويدخل فيه: الهداية لكل علم وحق.

    ٢- الأخذ عن العلماء الراسخين.

    قال الشاطبي: من أنفع طرق العلم الموصلة إلى عناية التحقيق به أخذه عن أهله المحققين به على الكمال والتمام.

    ولهذا كل من لازم العلماء وتربى في مجالسهم فإنك ترى فيه النبوغ والفهم والإدراك.

    قال ابن خلدون: على كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها.

    وفي الجانب المقابل فإن من أعرض عن مجالس العلم، ولم يُعرف بمجالسة الشيوخ فلن تجد على كلامه نور العلم ولا دلائل الحكمة، بل ستسمع منه الغرائب، وكم رأينا منهم في زمننا وللأسف.

    ومن زاوية أخرى فإن تعدد الشيوخ للطالب المتفقه تفتح له نوافذ مهمة في الفهم، لأن الشيوخ يختلفون في عرض المسألة وفي استنباط الحكم والإجابة على الاعتراضات، وهذا التفاوت بينهم يُنمَّي المَلَكة الفقهية بشكلٍ جيد.

    وأما الذي يلزم شيخاً واحداً ففي الغالب أن يكون بناءه العلمي ضعيف.

    3 - قراءة المطولات عبر خطة مُعينة تناسب مستواه، فإن لم يقدر لوحده، فليتفق مع مجموعة من الطلاب الحريصين.

    وفي أثناء تلك القراءة لابد من التمرن على فهم الأقوال مع معرفة أسباب الترجيح، وفهم القواعد وتدوينها ومراجعتها بين وقت وآخر، وهكذا حتى يتدرب الطالب ويتمرس على الفقه.

    4- سماع دروس العلماء عبر الأشرطة والمواقع، ومَن أدمن السماع وجد من نفسه تقدماً وتميزاً وفهماً.

    5- قراءة كتب الفتاوي، لأن لها دوراً كبيراً في فهم السؤال والتدرب على كيفية الجواب، ومعرفة تفاصيل المسائل وكيفية تقسيم الجواب، وطرق استنباط الحكم من النص، ومعرفة إيصال الجواب للسائل.

    6 - معرفة الفروقات بين العلم الواجب وغير الواجب، وعلوم المقاصد وعلوم الآلة، وهذا التفريق مهم، لأن العمر لا يكفي لكل العلوم، فينبغي للطالب أن يركز على الأصول المهمة في العلم مع المرور على علوم الآلة بالقدر الذي يفيده في فهم وضبط الأصول.

    7 - ضبط القواعد الفقهية والقواعد الأصولية وتمرين النفس عليها بين وقتٍ وآخر، وتطبيق الفروع الفقهية عليها، لأن مَن ضبط الأصول والقواعد أدرك الكثير من الفقه في وقتٍ يسير.

    قال القرافي: مَن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لا ندراجها في الكليات.

    8 - دراسة علم مقاصد الشريعة، لأنه زبدة الفقه كما قيل، فكل أحكام الشريعة قامت على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها.

    وكل مسألة تراها في زمننا لا بد أن تندرج في المصالح أو المفاسد، ولكن لن يدرك هذا إلا مَن لديه المَلَكة الفقهية التي تفتح له الغوص في أسرار المسائل.

    ومِن جانبٍ آخر فإن بعض الشيوخ بدأت أجوبتهم ومواقفهم في تذبذب بسبب غفلتهم عن جانب المصالح والمفاسد.

    وكل ما كان الفقيه بصيراً بالضروريات الخمس وهي (حفظ الدين والعقل والعِرض والنفس والمال) فإن كلامه وتقريره للمسائل سيكون أجمل وأكثر تقعيداً.

    9- كثرة النظر في نصوص الكتاب والسنة لأنهما مصدر التشريع، ومَن أدام النظر في نصوص الوحي جاءه الفتح والتوفيق الرباني، قال تعالى (كتابٌ أنزلناه إليك مبارك).

    10 – سلوكيات مهمة للمتفقه:

    - الصبر ومجاهدة النفس في طريق التعلم والتفقه، لأنَّ العلم كثير ويحتاجُ لصبرٍ طويل، ومَن أراد الفقه بغير تعنّ فلن يصل.

    وقل لمُرجّي معالي الأمور   بغير اجتهادٍ رجوتَ المحال

    وانظر لحياة العلماء الراسخين وهمتهم في العلم كيف كانت، لتوقن أن العلم لن يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.

    - التأني في دراسة المسائل وعدم الاستعجال في إخراجها.

    - الشجاعة في البحث والنقاش العلمي.

    - استشارة المشايخ عن المسائل والبحوث.

    - علو الهمة والترفع عن سفاسف الأمور.

    11 - التمرن على مذهب معين في بداية التفقه لكي تضبط المسائل، ثم بعد ذلك يمكنك النظر في الأدلة إن تم لك الرسوخ العلمي، ولقد تخرج العلماء قديما وحديثاً على مذاهب العلماء.

    12 - الحذر من التعصب المذموم للأقوال والمذاهب، فليس هناك أحد مِن العلماء إلا ويؤخذ مِن قوله ويُترك إلا رسولنا ﷺ.

    ١3- معرفة فقه الخلاف وأسبابه توسع مدارك الفهم للطالب المتفقه، مع الاعتذار للعلماء الذين وقع منهم ما يُخالف النص.

    ولابد للطالب أن يعرف أنواع الخلاف وما يسوغ منه ومالا يسوغ، وكيفية التعامل مع المخالف، وكل تلك السلوكيات مهمة في تكوين المَلَكة الفقهية للطالب.

    ١4 – العيش في بيئة محفزة للعلم تعينك على الإبداع العلمي، وهذا من واجب الوالدين تجاه ابنهم الراغب في العلم، فإن لم يجد الطالب المتفقه ذلك التحفيز فليجتهد ألا يتأثر بتلك البيئة المُهملة.

    وهنا رسالة لكل تربوي أن يعتني بإيجاد البيئة المحفزة للطلاب المتميزين في كل مجالات العلوم سواء الشرعية منها أو غيرها من العلوم، لأن المجتمع بحاجة للنابغين في كل المجالات.

    15 - مذاكرة العلم مع طالبٍ فقيه تعين على ضبط الفقه والرسوخ فيه، وهذا منهجٌ قديمٌ للعلماء، وقديماً قال النووي: مذاكرة حاذقٍ في العلم ساعة أنفع مِن المطالعة والحفظ ساعات بل أياماً.

    ومثال ذلك؛ أن تتفق مع صديقٍ لك من المهتمين بالفقه ثم تُحددون باباً للنقاش فيه وليكن كتاب الطهارة مثلاً ثم يذكر المسألة ثم تذكر دليلها، ثم يبدأ هو ويعترض على جوابك، ثم ترد عليه وهكذا، في جو من الأدب والاحترام بينكما، لأن الهدف هو التمرن على الفقه وليس إظهار العضلات الفقهية.

    ومن جرّب هذه وجد أنها أنفعُ من ساعاتٍ كان يقرأ فيها المرء لوحده.

    ١6 - اقتناء الكتب الفقهية والمجلات العلمية المتخصصة التي تتناول المسائل الفقهية، ومطالعة البرامج التي تهتم بالكتب في الإنترنت، كل ذلك يثري الملَكة الفقهية ويزيدك ثباتاً وحباً للعلم ويوسع المدارك.

    ١7 - التدرب على الاستنباط، والمقصود أن تتناول شيء من الأحاديث وتبدأ تكتب عليها تعليقات فقهية ومسائل علمية بدون الرجوع لشيء من الكتب.

    إن هذه الطريقة تصنع رياضةً جميلةً في عقلك وتنمي تفكيرك بشكل جيد في طرق الاستنباط، ثم بعد ذلك تراجع شروحات الحديث، وبإمكانك أن تناقش صديقك أو شيخك فيها لاحقاً لعله يضيف عليها أو ينتقدك فيها، وكل ذلك سيزيد من رصيدك المعرفي والفقهي.

    وقد كان الشيخ السعدي رحمه الله يدرب طلابه على ذلك ويجعل بينهم محاورات علمية في الدروس، وأحياناً يُغلِّط نفسه ليرى المنتبه من الطلاب.

    ١8 - ضبط الفروق الفقهية بين المسائل، كالفرق بين المعاملات المحرمة والمباحة، والفرق بين صلاة الفريضة والنافلة، وحينما يضبط الفقيه هذه الفروقات فسيكون تقريره أكثر تأصيلاً، ويُسمّي بعض العلماء هذا الفنّ بالأشباه والنظائر.

    19 – النظر في كلام السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم، يؤثر في بناء الملّكة الفقهية لأنك تعرف من خلال ذلك كيفية استدلالهم أو تعليلاتهم للمسألة.

    20 – التدرب على تقسيم المسائل، ووضع الضوابط، وهذا نافع جداً في ضبط العلم، مثال: ينقسم الماء إلى قسمين، زيارة المريض لها أحوال، السفر لبلاد الكفر له أحوال، وهكذا.

    21 - معرفة تاريخ الفقه والتشريع الإسلامي وتطوراته، كل تلك المعلومات تضيف للفقيه شيء من الفهم والمعرفة.

    22 – ضبط مسائل الإجماع والنظر فيها يزيد من ثباتك الفقهي حتى لا تأتي بما يخالف الإجماع.

    23 - معرفة أسباب نزول القرآن وأسباب ورود الحديث، ومعرفة الناسخ والمنسوخ، مع ضبط كل ذلك بالقواعد التي تعينك في دراستك للفقه.

    24 - معرفة قواعد ومبادئ اللغة العربية لأنها وسيلة مهمة لفهم الشريعة، وكم وقع من زلل في فهم النصوص بسبب الجهل بدلالات اللغة في النص.

    25 - النظر في كتب الردود العلمية والحوارات تنمي فيك معرفة الحوار الفقهي، وطرق الاستنباط، ومواطن الضعف والقوة في الدليل أو الاستدلال.

    26 – التدرب على كتابة البحث العلمي مع جمع الأدوات، من الجمع والتحليل والنقد ووضع الاعتراضات على المسألة.

    27 – تعليم الناس يعتبر مؤثر في تنمية الملكة الفقهية، لأن التعليم وإلقاء الدروس وسماع الأسئلة من الطلاب ومن عامة الناس يفتح للمتفقه مفاتيح مهمة في الملَكة الفقهية، ويجعل الطالب يراجع المسائل ويتأكد من القواعد والضوابط وغير ذلك من الأدوات التي تثبت العلم.

    28 - دعاء الرب بالتوفيق الدائم والانكسار على عتبات العبودية، فكل الخير والتوفيق إنما يأتي من الله، فرحِم الله طالباً أدمن التضرع لربه تبارك وتعالى وقال (رب زدني علماً).

    بعض ثمرات الملكة الفقهية:

    الذي يسير على قواعد تحقيق الملَكة الفقهية يحصل على ثمرات ومنها:

    1 – الرسوخ في العلم.

    2 – الاطراد في المسائل وعدم التناقض.

    3 – القدرة على الفتوى وضبطها على أحسن القواعد.

    4 – استنباط الأحكام بكل سهولة من النص على وفق القواعد الشرعية مع مراعاة المقاصد العامة للشريعة.

    5 – حسن الفهم للخلاف.

    اللهم وفقنا للفقه في دينك، وارزقنا العمل به.


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    القنوات والبحث عن الراحة

    0:00

    دور الإنسان في تثبيت من حوله

    0:00

    تلاوة من سورة النساء

    0:00

    إنه الله

    0:00

    ألحان وأحزان

    0:00



    عدد الزوار

    4973008

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 24 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1596 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة