• الجمعة 24 شَوّال 1445 هـ ,الموافق :03 مايو 2024 م


  • لماذا اختفى أويس ؟

  •  


    هناك وفي المدينة النبوية حيث كان يسكن عمر رضي الله عنه وبقية الصحابة ، وفي وقت الحج كان عمر يسأل الوفود القادمة من اليمن ، هل فيكم أويس القرني ؟

    وفي إحدى الأعوام كان الجواب : نعم معنا أويس القرني ، فحصل هذا اللقاء الذي رواه مسلم في صحيحه : كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم : أفيكم أويس بن عامر ؟

    حتى أتى على أويس، فقال : أنت أويس بن عامر ؟

    قال : نعم.

    قال : من مراد، ثم من قرن ؟

    قال : نعم.

    قال : فكان بك برص، فبرأت منه إلا موضع درهم ؟

    قال : نعم.

    قال : لك والدة ؟

    قال : نعم.

    قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة، هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره ، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل ".

    تأمل معي ، أويس تابعي وليس صحابي ، وهو سيد التابعين كما في الحديث الآخر عند مسلم : " إن خير التابعين رجل يقال له : أويس " .

    كان أويس به برص فدعا الله فأذهبه إلا موضع درهم حتى يتذكر نعمة الله عليه .

    وكان باراً بوالدته ، وقيل إن هذا هو السبب الذي منعه من السفر للنبي صلى الله عليه وسلم .

    كان أويس له مكانة عالية عند الله ، بحيث أنه لو أقسمَ على الله لأبره ، والقسمُ على الله ليس كالحلفِ بالله ، والذي ينال هذه المنقبة ، أن يقسم على الله فيحقق الله طلبه ، ليس بالشيء السهل .

    وهنا نلحظ أن الذي زكّى أويس ليس صحابي ، أو عالِم .

    إن الذي زكّاه هو النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه التزكية وحيٌ من الله ، مما يعني أن أويس جاء اسمه بوحي من الله إلى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

    إنها لمكانةٌ رفيعة ، إنه لشيءٌ يفوق الوصف ، أن ينزلَ الوحي بالثناء على شخص من عامة الناس ، فأويس ليس بصحابي ، بل من التابعين .

    إن أويس رجل ملأت التقوى حياته ولعل بينه وبين الله أشياء جعلته يفوز بهذه التزكية النبوية .

    ومما نلحظُ في قصة أويس استشعار عمر لعلو منزلة أويس .

    فحين التقى مع عمر طلبَ منهُ عمر أن يستغفر له ، ولك أن تتخيل هذا المشهد .

    فعمر ثاني الخلفاء الراشدين ، ومن المبشرين بالجنة ، ومناقبه أشهر من التذكيرِ بها .

    فكيف يطلب عمر من أويس أن يستغفر له ؟

    ألا ترى في هذا الموقف شيء غريب ، وملمح خفي ؟

    إن أويس لم يُعرف بشيء بين الناس إلا بِرّهُ بأمه ، كما في الحديث .

    إنه لم يشتهر بعلم أو بدعوة أو بجهاد ، إنه خفيٌ تقيٌ بعيدٌ عن كل مظاهر الشهرة .

    والغريبُ في قصته أن عمر سأله أين تريد بعد الحج ؟

    فقال أويس : الكوفة.

    فقال عمر : ألا أكتب لك إلى عاملها ؟ يعني هل أكتب لك توصية ليستقبلك أمير الكوفة ؟

    فقال أويس : أكون في غبراء الناس أحب إلي.

    والمعنى كما قال النووي : أكون مع ضِعافهم وصعاليكهم وأخلاطهم الذين لا يؤبه لهم ، وهذا من إيثار الخمول وكتم حاله .

    إن أويس قادرٌ أن يُرحبَ باقتراحِ عمر ويحظى باستقبال والي الكوفة ويلتفَّ حولَهُ الناس ويتحدثون عنه وعن تزكية الرسول له ، ولكن أويس اختار الابتعاد عن كل مظاهر الشهرة والازدحام حوله ، وهذا الاختيار دليلٌ على قوةِ صدقهِ وخوفهِ على نفسه من الاغترار بثناء الناس وإحاطتهم به .

    ومن جهة أخرى يزدادُ عجبي من ردةِ الفعل الأخرى وهي أن أويس اختفى في اليوم الثاني فلم يعثر عليه أحد لا عمر ولاغيره من الصحابة ولا التابعين .

    ياترى لماذا لم يفرح أويس بالقرب من الصحابة والصالحين والجلوس معهم ؟

    أليس القرب منهم مليء بالخير والنفع والفائدة فهناك الصحابة والأخيار من التابعين ؟

    إني أظن أن أويس اختار الاختفاء لأن بوادر الشهرة ملأت حياة المجتمع حينها ، ويكفيه أن عمر طلب منه أن يستغفر له ، فماظنك بغيره لو رأى أويس ماذا سيقول له ؟

    لعل أويس خاف أن يغترّ بنفسه ، أو تدخل إحدى شهوات النفس الخفية عليه فتضيعُ عليه منقبة " لو أقسم على الله لأبره " .

    إن المقصد من سيرة أويس ليس هو تفعيل جانب الاختفاء الكلي عن اجتماعات الناس .

    وليس المعنى ترك الدعوة وتعليم الناس ، بل هذه من الواجبات على الدعاة وطلاب العلم .

    ولكن الذي أستفيده من قصة أويس في حياتي أن لا أبحث عن الشهرةِ ولا أفرحُ بها ولا أتقصدُ المواطن التي تجعل الناس يعجبونَ بي ويثنون علي .

    علّمني أويس أن لا أتزين أمام الصديق والقرين والمعجب لألفتَ نظرهُ إلي .

    علّمني أويس أن البعد عن أنفاس الناس يبقي لك مقعداً في منازل الأخفياء والأتقياء .

    لقد علّمني أويس أن القرب من الله يغني عن كل شيء .

    نعم ، علّمني أويس أن الخفاء قد يكون أفضل من الظهور ، لأن الظهور يقصم الظهور .

    لقد استفدتُ من أويس أن أحافظ على نيتي أن لاتتغير بسبب ثناء الناس ومدحهم .

    ختاماً ، حاول أن تختفي أحياناً لتتصل بربك وتحققَ الفرار إليه .

    اقترب من الله أكثر من اقترابك من الناس حتى لو كنتَ تقصد نفعهم ، لأن القربَ من الله يمنحك العون والتوفيق في كل برامجك معهم .

    اتصل بربك لعله يمنحك وسام ( لو أقسم على الله لأبرّه ) .


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    تأملات في سورة الطلاق

    0:00

    مقارنة بين الجنة والنار

    0:00

    قصة شاب

    0:00

    يا صاحب الخطايا

    0:00

    تأملات في سورة الملك

    0:00



    عدد الزوار

    4180465

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 21 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 92 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1593 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 996 ) مادة