• الخميس 18 رَمَضان 1445 هـ ,الموافق :28 مارس 2024 م


  • ذكريات من حياتي مع الشيخ السدحان

  •  

      

    في عام 1411 هـ وفي تلك الثانوية " ثانوية تحفيظ القرآن " في الرياض في حي " عليشة " كان لقائي الأول بالشيخ الفاضل عبد العزيز السدحان رفع الله قدره .

    كان الشيخ يدرسنا في الصف الأول ثانوي في مادة " علوم القرآن " وكان قد جمع مذكرة وزعت علينا فيها منهج المادة ، وفي الصف الثاني ثانوي درسنا مادة ( مصطلح الحديث ) وفي الثالث الثانوي درسنا مادة ( الفرائض ) .

    وكان يفيدنا كثيراً فوائد خارجية كمسائل فقهية وأحاديث ضعيفة وكنا نكتبها في الجانب الأيمن من المذكرة، وكان يسرد علينا قصصاً في همة السلف في طلب العلم .

    في اليوم التالي يبدأ بأسئلته المعتادة مراجعة للمنهج السابق، وكان يسألنا عن الفوائد التي كتبناها أكثر من المواد التي ندرسها لحرصه على تثبيت الفوائد، وكنت أشتاق إلى رؤيته في كل يوم وأحب سماع صوته في إفادته وتعليمه.

    كان يعاتبني أحياناً بطريقة ذكية يقول: قم يا سلطان، ثم يقول: في الآية ( الله الصمد ) ما معنى الصمد؟ 

    وأنا لا أعرف الإجابة، فيقول معاتباً : طالب في التحفيظ ولا يعرف معنى " الصمد " وهي سورة نقرأها دائماً، يا حسرتاه عليك.

    وفي الحقيقة أن الشيخ كرر ذلك الموقف أكثر من مرة معي شخصياً، وكان الخجل يملأ وجهي عندما لا أعرف الإجابة ، ولكن كان هذا العتاب نافعاً لي .

    ومما يلفت الانتباه أن الشيخ كان يتابع ما يُلقى في الإذاعة المدرسية، فإن رأى خيراً قام بالشكر والتعليق المفيد، وإن رأى خللاً أو خطأ قام ونبه مباشرة بعد فراغ المتحدث حتى لو كان أحد الأساتذة.

    وكنتُ أصعد للمكتبة في الفسحة وأجد الشيخ يبحث أو يجالس الطلاب ، فأقوم بطرح الأسئلة عليه، وكنت أكتب بعض الأسئلة في ورقة ثم أتصل على الشيخ وكان يجيبني عليها بكل محبة وتعليم.

    ومن القصص :
    في أحد الأيام اتصلت عليه فلم يرد وقد وضع مسجلاً في الهاتف الثابت وفيه: الرجاء ضع رسالتك ورقمك وسأتصل عليك لاحقاً، وفعلاً وضعت رسالتي واسمي ورقمي، فتفاجأت باتصال الشيخ الساعة التاسعة مساء، فقال: سلطان؟ قلت: نعم. قال: هل تريد شيئاً؛ لأني وجدت اتصالك عصر اليوم؟ قلت: نعم. 
    قال: هل تستطيع الحضور الآن ؟

    قلت: نعم، يناسبني، فركبت السيارة واتجهت لبيته وجلسنا سوياً وكان قد أعد الشاي والقهوة، وطرحت عليه موضوعي ثم أهداني كتابين تناسب الموضوع الذي طرحته عليه ، وكان ذاك الموقف وأنا في مرحلة أولى ثانوي ( 17 ) عاماً.

    ومن القصص :
    كان الشيخ يكثر علينا من سرد القصص المؤثرة من حياة العلماء والصالحين، وفي بعض الأحيان يخبرنا بطرف القصة ثم ينتهي وقت المادة، فيؤجل بقية القصة إلى اليوم الثاني ليشوقنا لها.

    وكان ينكر على الطلاب ما يقع منهم من مخالفات ويقوم بتفتيش مفاجئ على الطلاب لمراقبة ما يكون معهم أو عليهم من مظاهر لا تليق بطالب التحفيظ.

    وفي أحد الليالي اتصلت عليه لآخذ موعداً معه، فقال: صل معي الفجر، وفعلاً صليت معه وسلمت عليه ولكنه اعتذر لي وقال: أنا لم أنم وأشعر بإرهاق ولعلك تأتيني فجر غداً ، قلت: حسناً ، فأتيته فجر اليوم الثاني، فاعتذر بنفس العذر السابق، وقال: تعال فجر غداً، وفعلاً أتيت إليه فجر اليوم الثالث ولكنه لم يعتذر، بل قال: تعال إلى البيت، ودخلت وفرغت من أسئلتي ثم جاء بالقهوة وبعض الحلويات ثم أعطاني ثلاثة كتب هدية وقال: هذه كفارة عن الأيام السابقة التي اعتذرت فيها.

    ومن القصص :
    أني كنتُ في زيارة له ، فسألني : هل تخطب جمعة ؟ قلت : نعم . قال : كم مدة الخطبة ؟ قلت : نحو 25 دقيقة ، فقال : إن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أوصاني أن لاتتجاوز خطبتي 13 دقيقة .

    كانت للشيخ دروس بعد صلاة العشاء في بعض الأيام، وكانت على طريقة سؤال وجواب، أو فوائد متفرقة، وكان لا يطيل على الناس، وكان الطلاب يحضرون ويكتبون الفوائد.

    كانت للشيخ دروس في منزله بعد صلاة المغرب في ثلاثة أيام، وكنت أحضر باستمرار وكانت دروسه مليئة بالفوائد والفرائد وكان الطلاب يتوافدون عليه حتى إن مجلسه يمتلئ ثم يجلس الطلاب بين يديه.

    ومن المواقف :
    أني أتيته فجر أحد الأيام وشربت القهوة وتناولنا بعض الحلويات فلما قمت من عنده أعطاني باقي الحلويات، وقال: هذه هدية.

    كان يوصيني كثيرة بأشرطة الفتاوى لأسمعها أثناء ذهابي للجامعة وفعلاً رأيت فيها الفائدة الكبيرة.

    ومن المواقف :
    أني أصبتُ بحادث في قدمي وكنت أمشي بصعوبة ولم أخبر الشيخ بذلك فطلب مقابلتي فحضرت فلما رآني غضب، وقال: لماذا لم تخبرني، ولماذا تحضر وأنت هكذا ؟ قلت: الأمر عادي، ولم أكن لأعتذر عن طلبك.

    ضبط المواعيد:

    اتصلت عليه لآخذ موعداً فقال: تعال الساعة السادسة بعد العصر ، ولكني جئت السادسة وخمس دقائق، فطرقت الباب فقال: من؟ قلت: سلطان. قال: متى كان موعدنا؟ قلت: السادسة.

    قال: وكم الساعة الآن ؟ قلت: السادسة وخمس.

    قال: عقوبة لك انتظر خمس دقائق أخرى عند الباب ، وقبلت العقوبة وانتظرت خمس دقائق ثم فتح لي.

    فلما دخلت وتحدثت معه أذكر أنه كرر علي هذه العبارة أكثر من خمس مرات " يا سلطان كن شحيحاً بوقتك ".

    متفرقات :

    - كان يساعدني كثيراً في أموري المالية ، وتأمل هذا الموقف : أتيت له في أحد الأيام ومعي ورقة فيها مجموعة من الأسئلة، فقلت: يا شيخ أريد أن أستفيد، فقال: اجعلها في وقت آخر، ولكن هل تحتاج إلى كتب؟
    قلت: نعم ، فأخرج ورقة عنده عليها اسمه، وقال: اذهب إلى مكتبة طيبة وأعطهم هذه الورقة، وكتب فيها: أرجو إعطاء الأخ سلطان العمري كتباً بقيمة ألف ريال وتسجيل ذلك في حسابي، ففرحت لذلك كثيراً، وذهبت للمكتبة وأخذت الكتب ثم أتيته بالفاتورة، ووضعتها في صندوق الأسئلة عند باب بيته وكان عمري آنذاك ( 19 ) سنة.

    معالم في شخصية شيخنا رفع الله منزلته :

    -  مما عُرف عن الشيخ عنايته بطلاب العلم وإكرامهم ودعمهم مادياً ومعنوياً والثناء عليهم وشحذ الهمة لديهم، وكان لهذا أثراً كبيراً على كثير من الطلاب ، ولقد تخرج عليه كثيراً من الدعاة وطلاب العلم ، وما ذاك إلا نتيجة رعايته لهم وتوجيهه لهم بعد توفيق الله .

    -  من منهج الشيخ رفع الله قدره : حرصه على ربط الناس بالدليل والاعتماد على الوحي لا على العادات والأذواق، وكثيراً ما يتمثل بقول الأول:

    والشرع ميزان الأمور كلها      وشاهد لفرعها وأصلها

    - يعتبر الشيخ مرجعاً في التوجيه لطلب العلم، وكان الطلاب يفدون عليه كثيراً يسألونه، فلما كثر ذلك عليه جمع من أسئلتهم واستشاراتهم ما أفاده في إخراج كتاب " معالم في طريق طلب العلم " الذي أعتقد أنه أبان فيه كثيراً مما يفيد طالب العلم.

    - يتميز الشيخ رعاه الله بحرصه على تيسير العلم لعموم الناس فانظر كتيب " الدليل العلمي " تجد الفوائد والفرائد ذات القوة العلمية مع سهولة العبارة والترقيم حتى إنك لا يكاد يصعب عليك فهم شيء منه بل كله سهل بين.

    - عنايته بصحيح الأخبار، والدفاع عن السنة بتمييز الصحيح من الضعيف، وهذا ظاهر في منهج الشيخ أعلى ذكره، ومن ذلك كتابه في " الزيادات الضعيفة على الأحاديث الصحيحة " .

    - كثيراً ما يعتني بالتنبيه على المخالفات والأخطاء المشتهرة في العبادات والعادات، وكان من أوائل تصانيفه " مخالفات في الطهارة والصلاة " ثم " مخالفات في الصيام " " مخالفات عند النساء " " مخالفات في الحج والعمرة" وألقى محاضرات كثيرة في هذا الباب.

    - محبته الكبير للعلم وللفائدة وتقديره لها ، ومن يطالع كتب الشيخ الخاصة في مكتبته يجد أنواع الفوائد والكنوز المتناثرة على غلاف الكتب .

    - التعلق بالقراءة والسهر عليها ، وهذا رأيته كثيراً في حياته، وكم من مرة أتيته فجراً للجلوس معه فيعتذر بأنه لم ينم بسبب القراءة والبحوث .

    تقديره للعلماء:

    وهذا ظاهر لمن لازم الشيخ، فهو دائماً يترحم عليهم عندما يذكرهم، وكان ولا يزال يعظم العلماء الذين درس عليهم ويذكرهم بالجميل والدعاء، ومنهم الأئمة الأعلام : ابن باز وابن عثيمين وابن جبرين والألباني وبكر أبو زيد رحمهم الله تعالى ، وكان يحرص على الكتابة أو الحديث عنهم في الأشرطة، ومن ذلك هذه الكتب :
    1- الإمام ابن باز دروس وعبر.

    2- حياة الألباني ومواقف منها.
    3- شريط عن حياة ابن جبرين وبعض العبر.
    4- شريط عن الشيخ بكر أبو زيد وبعض العبر.

    من صور التواضع في حياة شيخنا:

    1- زيارته لصغار طلابه في منازلهم.
    2- رأيته في إحدى اللقاءات لما جلس رأى بعض كبار السن أمامه في الصف الأول فقام من كرسيه وصافحهم  ثم رجع وجلس وبدأ في محاضرته، وكان ذلك الموقف مؤثراً على الكثيرين.
    3- تواضعه في " ابتسامته " وأريحيته مع الناس وسهولته، ويذكرك هذا الخلق بحديث: ( حُرِّم على النار كل هينٍ لينٍ سهل قريب من الناس ) صحيح الجامع .
    4- الزيارات الدعوية عبر إجابته للدعوات التي تطلب منه في المناسبات والاستراحات وغيرها ، ومعروف عند عامة الناس بهذا، ووضع الله له القبول بين الناس.
    5- من تواضع الشيخ : حرصه على زيارة للمرضى، وهذا ظاهر بيّن في حياته، سواء كانوا في البيوت أو المستشفيات، وهو قدوة في هذا الباب  غفر الله له.

    وليسمح لي بعض طلاب العلم أن أعاتبهم على تقصيرهم في زيارة المرضى بحجة الانشغال بطلب العلم والدروس العلمية، فأقول: هذا لا ينبغي، بل لا بد من ترتيب أوقات لزيارتهم والتلطف بهم.

    ختاماً ، هذه بعض الذكريات والمواقف مع والدي الثاني وشيخي الفاضل د. عبد العزيز السدحان رفع الله قدره وأعلى في الجنان مكانه، فهو من ساهم في تربيتي  ورفع همتي.

    وإني لأهمس لكل طالب استفاد من شيخه أن يكتب بعض ما جرى له مع شيخه مما يبرز جانب القدوة للأجيال.

    ولعل هذا في هذا نوع من البر بهم، وإسداء بعض الشكر لهم.

    وفي حياة السلف مع شيوخهم نماذج كثيرة في هذا الباب.

    اللهم اغفر لمشائخنا وعلمائنا وأساتذتنا واجعل ما قدموه لنا في ميزان حسناتهم.


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    ثلاثون قصة من حياة العلماء

    0:00

    آداب المشي إلى الصلاة

    0:00

    أحكام الآنية

    0:00

    تعليقات على بعض الأبيات الشعرية

    0:00

    الاستعداد للموت

    0:00



    عدد الزوار

    4099054

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 21 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 90 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1589 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 996 ) مادة