جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم إني أعوذُ بك من الهمِّ والحُزْن، والعجزِ والكسل، والجُبْنِ والبُخل، وضِلَع الدَّين وغلبة الرجال.
فاستعاذ من ثمانية أشياء، كلُّ شيئين منها قرينان:
* فالهمُّ والحزنُ قرينان.
والفرقُ بينهما: أنَّ المكروه الوارد على القلب إمَّا أن يكون على ما مضى أو لما يُسْتَقْبَل؛ فالأول هو الحزن، والثاني الهمُّ.
وإن شئتَ قلتَ: الحزنُ على المكروه الذي فات ولا يُتَوقَّعُ دفعُه، والهمُّ على المكروه المنتَظَر الذي يُتَوقَّعُ دفعُه. فتأمَّلْه.
* والعجزُ والكسلُ قرينان.
فإنَّ تخلُّف مصلحة العبد وكماله ولذَّته وسروره عنه، إمَّا أن يكون مصدرُه عدمَ القدرة، فهو العجز، أو يكون قادرًا عليه لكن تخلَّف لعدم إرادته، فهو الكسل، وصاحبُه يلامُ عليه ما لا يلامُ على العجز.
وقد يكونُ العجزُ ثمرةَ الكسل، فيلامُ عليه أيضًا؛ فكثيرًا ما يكسلُ المرءُ عن الشيء الذي هو قادرٌ عليه، وتَضْعُفُ عنه إرادتُه؛ فيفضي به إلى العجز عنه. وهذا هو العجزُ الذي يلومُ اللهُ عليه في قول النبيِّ ﷺ: " إنَّ الله يلومُ على العجز " ، وإلا فالعجزُ الذي لم تُخْلَق له قدرةٌ على دفعه ولا يدخلُ مَعْجُوزُه تحت القدرة لا يُلامُ عليه.
قال بعض الحكماء في وصيَّته: إياك والكسلَ والضَّجر؛ فإنَّ الكسلَ لا ينهض لمَكْرُمَة، والضجرُ إذا نهض إليها لا يصبرُ عليها.
والضَّجرُ متولِّدٌ عن الكسل والعجز، فلم يُفْرِده في الحديث بلفظ.
* ثمَّ ذكر الجُبْنَ والبخل.
فإنَّ الإحسانَ المتوقَّعَ من العبد إمَّا بماله وإمَّا ببدنه، فالبخيلُ مانعٌ لنفع ماله، والجبانُ مانعٌ لنفع بدنه.
والمشهورُ عند الناس أنَّ البخلَ يستلزم الجُبْنَ، من غير عكس؛ لأنَّ من بَخِلَ بماله فهو بنفسه أبخَل، والشجاعةُ تستلزمُ الكرم، من غير عكس؛ لأنَّ من جاد بنفسه فهو بماله أسمَحُ وأجوَد.
وهذا الذي قالوه ليس بلازمٍ وإن كان أكثريًّا؛ فإنَّ الشجاعةَ والكرمَ وأضدادها أخلاقٌ وغرائزُ قد تجتمعُ في الرجل، وقد يُعطى بعضَها دون بعض.
وقد شاهدَ الناسُ مِن أهل الإقدام والشجاعة والبأس مَن هو أبخلُ الناس، وهذا كثيرًا ما يوجدُ في أمَّة التُّرك؛ يكونُ أشجعَ من لَيْثٍ وأبخلَ من كلب.
فالرجلُ قد يسمحُ بنفسه ويَضِنُّ بماله، ولهذا يقاتِلُ عليه حتى يُقْتَل، فيبذُل نفسَه دونه.
فمن الناس من يسمحُ بنفسه وماله، ومنهم من يبخلُ بنفسه وماله، ومنهم من يسمحُ بماله ويبخلُ بنفسه، وعكسُه، والأقسامُ الأربعةُ موجودةٌ في الناس.
* ثمَّ ذكر ضِلَعَ الدَّين وغلبةَ الرجال.
فإنَّ القهرَ الذي ينالُ العبدَ نوعان:
أحدهما: قهرٌ بحقٍّ؛ وهو ضِلَعُ الدَّين.
والثاني: قهرٌ بباطل؛ وهو غلبةُ الرجال.
فصلواتُ الله وسلامُه على من أوتيَ جوامعَ الكلم، واقتُبِسَت كنوزُ العلم والحكمة من ألفاظه.
ابن القيم ، مفتاح دار السعادة 1 / 312
مواد آخرى من نفس القسم
مكتبة الصوتيات
صلاح الأمة في علو الهمة
0:00
كيف تتعامل الأزمات
0:00
التلذذ بقراءة القرآن
0:00
تأملات في سورة ق - 2
0:00
قصة المكان البعيد
0:00
عدد الزوار
5243376
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 29 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1627 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |