من الكلام الجميل لابن القيم في مفتاح دار السعادة 1 / 322 :
ولو لم يكن للعلم أبٌ ومُرَبٍّ وسائسٌ ووزيرٌ إلا العقل الذي به عمارةُ الدَّارين، وهو الذي أرشدَ إلى طاعة الرسل، وسلَّمَ القلبَ والجوارحَ ونفسَه إليهم، وانقاد لحكمهم، وعَزَل نفسَه، وسلَّمَ الأمرَ إلى أهله لكفى به شرفًا وفضلًا.
وقد مدحَ الله سبحانه العقلَ وأهلَه في كتابه في مواضع كثيرةٍ منه، وذمَّ من لا عقلَ له، وأخبر أنهم أهلُ النار الذين لا سمع لهم ولا عقل، فهو آلةُ كلِّ علم وميزانُه الذي يُعْرَفُ به صحيحُه من سقيمه وراجحُه من مرجوحه، والمرآةُ التي يُعْرَفُ بها الحسنُ من القبيح.
وقد قيل: العقلُ مَلِك، والبدنُ روحُه، وحواسُّه وأفعاله وحركاتُه كلُّها رعيَّةٌ له؛ فإذا ضَعُفَ عن القيام عليها وتعهُّدها وصلَ الخللُ إليها كلِّها.
ولهذا قيل: من لم يكن عقلُه أغلبَ خصال الخير عليه كان حَتْفُه في أغلب خصال الشرِّ عليه.
ورُوِي أنه لمَّا هبطَ آدمُ من الجنة أتاه جبريل، فقال: إنَّ الله أحْضَرَكَ العقلَ والدِّين والحياء لتختارَ واحدًا منها؛ فقال: أخذتُ العقل، فقال الدِّينُ والحياء: أُمِرنا ألا نفارق العقلَ حيثُ كان، فانحازا إليه.
والعقلُ عقلان:
1- عقلٌ غريزيٌّ، وهو أبُ العلم ومربِّيه ومُثْمِرُه.
2- وعقلٌ مُكتَسبٌ مستفاد؛ وهو ولدُ العلم وثمرتُه ونتيجتُه.
فإذا اجتمعا في العبد فذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، واستقامَ له أمرُه، وأقبلت عليه جيوشُ السعادة من كلِّ جانب، وإذا فقدهما فالحيوانُ البهيمُ أحسنُ حالًا منه، وإذا انفردا نقصَ الرجلُ بنقصان أحدهما.
ومن الناس من يرجِّحُ صاحبَ العقل الغريزيِّ، ومنهم من يرجِّحُ صاحبَ العقل المكتَسب.
والتحقيق أنَّ صاحبَ العقل الغريزيِّ الذي لا علم ولا تجربة عنده آفتُه التي يؤتى منها الإحجامُ وترك انتهاز الفرصة؛ لأنَّ عقلَه يَعْقِلُه عن انتهاز الفرصة لعدم علمه بها، وصاحبُ العقل المكتَسب المستفاد يؤتى من الإقدام؛ فإنَّ علمَه بالفُرص وطرقها يلقيه على المبادرة إليها، وعقلُه الغريزيُّ لا يطيقُ ردَّه عنها؛ فهو غالبًا يؤتى من إقدامه؛ والأولُ من إحجامه.
فإذا رُزِقَ العقلُ الغريزيُّ عقلًا إيمانيًّا مستفادًا من مشكاة النبوَّة، لا عقلًا معيشيًّا نِفاقيًّا يظنُّ أربابُه أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون، فإنهم يرون العقلَ أنْ يُرْضُوا الناسَ على طبقاتهم، ويسالِمُوهم، ويستجلبون مودَّتهم ومحبَّتهم.
وهذا مع أنه لا سبيل إليه، فهو إيثارٌ للراحة والدَّعة على مُؤْنة الأذى في الله والموالاة فيه والمعاداة فيه، وهو وإن كان أسلمَ في العاجلة فهو الهُلْكُ في الآجلة، فإنه ما ذاق طعمَ الإيمان من لم يوالِ في الله ويعادِ فيه؛ فالعقلُ كلُّ العقل ما أوصلَ إلى رضا الله ورسوله، والله الموفِّقُ المعِين.
مكتبة الصوتيات
رسائل للزوجة
0:00
تلاوة من سورة يس 55-70
0:00
الصبر يا أختاه
0:00
سورة السجدة
0:00
تأملات في سورة الحديد - 4
0:00
![](/Content/assets/images/icons_omariy/users_yello-8.png)
عدد الزوار
5246957
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 29 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1627 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |