• السبت 19 جُمادى الآخرة 1446 هـ ,الموافق :21 ديسمبر 2024 م


  • الداعية بين العزلة والخلطة


  •  

    هناك مفهوم مهم في الدعوة إلى الله تعالى، وهو العزلة والخلطة، وحول هذا أقول:

    العُزلة والخُلطة موضوعان يتعلقان بكيفية تعامل المسلم مع المجتمع من حوله، ويُنظر إليهما من زاوية دور المسلم في المجتمع وتأثيره وتأثره به.

    تتعلق العُزلة بالابتعاد عن الناس والانفراد بالنفس، بينما الخُلطة هي الانخراط في المجتمع والتفاعل مع الناس ولكل منهما محاسن ومساوئ، ويختلف الحكم فيهما بحسب الظروف والحال والمصلحة.

    أولاً: مفهوم العزلة:

    العُزلة تعني أن يختار المسلم الابتعاد عن الناس والاعتكاف على العبادة، والانشغال بنفسه دون التفاعل المباشر مع المجتمع إلا في حدود الضرورة، وهذا الخيار قد يلجأ إليه المسلم لأسباب عدة، منها:

    1- الخوف على الدين، فإذا كان المسلم يعيش في بيئة يكثر فيها الفساد والمعاصي، ويخشى على دينه أن يتأثر سلبًا، فقد يلجأ إلى العزلة لحماية إيمانه.

    ومما يؤكد ذلك أن البخاري قال في صحيحه: باب الفرار بالدين من الفتن، وأخرج فيه حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يِفرُّ بدينهِ من الفتن.

    2- التفرغ للعبادة، وهذا موجود في سير بعض العلماء والصالحين حيث يختارون العزلة لفترةٍ معينة للتفرغ للعبادة والتأمل، والبعد عن صخب الحياة اليومية، وهذا نافع إلى حدٍ ما.

    3- تجنب الأذى، وذلك حينما يتعرض الداعية لبعض الأذى من بعض الأشخاص، فقد يجد في العُزلة وسيلة للسلامة النفسية والجسدية.

    4- العُزلة تساعد الداعية على التفكير في أحوال النفس ومراجعة الأعمال والأخطاء، مما يعين على إصلاحها.

    مساوئ العزلة:

    1- الابتعاد عن الناس قد يؤدي إلى التقصير في واجبات المسلم نحو المجتمع مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومساعدة المحتاجين.

    2- الداعية يحتاج إلى التعاون مع إخوانه ومشاركتهم في أمور الدين والدنيا، والعُزلة تحرمه من هذه الفرص.

    3- العُزلة لفتراتٍ طويلة قد تؤدي إلى الشعور بالوحدة والانعزال عن المجتمع، مما قد يؤثر سلبًا على النفس.

    ثانياً: مفهوم الخُلطة:

    الخُلطة تعني أن يعيش المسلم بين الناس ويتفاعل معهم، سواءً في الأمور الدينية مثل الدعوة إلى الله، أو في الأمور الدنيوية مثل العمل والتجارة والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية.

    محاسن الخُلطة:

    1- الخُلطة تتيح للداعية فرصة الدعوة إلى الله وتقديم النصح والتوجيه، والمساهمة في تصحيح الأخطاء بين الناس.

    2- العيش مع المجتمع يساعد على تحقيق التعاون والتكافل الاجتماعي، وهو من الأمور التي حث عليها الإسلام، مثل مساعدة المحتاج وزيارة المريض، ومواساة الآخرين والتفاعل معهم في مناسبات الفرح والحزن، مما يعمق الروابط الإنسانية.

    مساوئ الخلطة:

    1- قد تؤدي الخلطة إلى التعرض للفتن الدينية أو الأخلاقية إذا كان المجتمع مليئًا بالمعاصي.

    2- قد ينشغل الداعية بأمور الدنيا ومجالس اللهو واللغو على حساب دينه وعبادته، إذا لم يكن حريصًا على إدارة وقته.

    3- كثرة المخالطة قد تؤدي إلى قسوة القلب، بسبب الانشغال الدائم بالأمور الدنيوية والابتعاد عن التأمل والذكر.

    الموازنة بين العزلة والخلطة:

    أفضلية العزلة أو الخلطة تعتمد على حالة الداعية والمجتمع وظروف الزمان والمكان، ولعل أشهر حديث في هذه المسألة هو قول النبي ﷺ: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم. رواه الترمذي بسندٍ صحيح.

    وهذا الحديث يدل على أن الخلطة مع الصبر على أذى الناس قد تكون أفضل إذا كان فيها نفع للمسلم ولغيره، مثل الدعوة إلى الله والإصلاح بين الناس.

    لكن في بعض الحالات قد تكون العزلة أفضل، خاصة إذا كانت الفتن منتشرة ويخشى الإنسان على نفسه من الوقوع في المعاصي، كما قال النبي ﷺ: " يأتي على الناس زمان، القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر" رواه الترمذي بسندٍ صحيح.

    والخلاصة تكون في هذه القواعد:

    1- أن العزلة للداعية تكون أفضل إذا كانت لحفظ الدين وتجنب الفتن، أو للتفرغ للعبادة والتأمل، والخلطة أفضل إذا كانت بهدف الإصلاح والدعوة إلى الله والمشاركة في بناء المجتمع.

    2- الداعية الحكيم أعلمُ بنفسه فيما يصلح له، مع التأكيد على أنه يمكن أن يمارس العزلة اليومية كأن يخلو بنفسه في بعض الساعات للعبادة والتأمل والترفيه المناسب، مع تخصيص شيء من الوقت اليومي أو الأسبوعي لنفع الناس عبر الوسيلة المناسبة له.

    3- لو افترضنا أن الداعية يرى العُزلة بسبب كثرة الفتن، فإن هناك وسائل دعوية تنفع الناس بدون أن يختلط بهم حتى يسلم من الفتن، ولعل أشهر هذه الوسائل الدعوة عبر الإنترنت ومواقع التواصل، فإن نفعها كبير جداً وفي نفس الوقت لايُشترط لها مخالطة الناس.

    4- في بعض المجتمعات المليئة بالفتن مثل الدول الكافرة قد يناسب الداعية العُزلة التامة.

    وقد يكون بعض الدعاة لديه القدرة على مواجهة الفتن مع تقديم البرامج الدعوية للناس، وهنا أذكر كلاماً جميلاً لابن تيمية رحمه الله تعالى حيث يقول: الإقامة في كل موضع تكون الأسباب فيه أطوع لله ورسوله وأفعل للحسنات والخير بحيث يكون أعلم بذلك وأقدر عليه وأنشط له أفضل من الإقامة في موضع يكون حاله فيه في طاعة الله ورسوله دون ذلك.

    وإذا كان هذا هو الأصل فهذا يتنوع بتنوع حال الإنسان.

    فقد يكون مقام الرجل في أرض الكفر والفسوق من أنواع البدع والفجور أفضل إذا كان مجاهداً في سبيل الله بيده أو لسانه آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر بحيث لو انتقل عنها إلى أرض الإيمان والطاعة لقلّت حسناته ولم يكن فيها مجاهداً وإن كان أروح قلباً.

    وكذلك إذا عُدم الخير الذي كان يفعله في أماكن الفجور والبدع.

    ولهذا كان المقام في الثغور بنية المرابطة في سبيل الله تعالى أفضل من المجاورة بالمساجد الثلاثة باتفاق العلماء. الفتاوى 27 / 40


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    لماذا انتكس فلان ؟ أكثر من 45 سبب للإنتكاسة

    0:00

    الثقافة في تربية الأبناء

    0:00

    باب جامع من كتاب عمدة الأحكام ( 1)

    0:00

    أشراط الساعة - 4

    0:00

    التربية على سير الصالحين

    0:00



    عدد الزوار

    5077596

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 27 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1608 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة