من مسائل الاعتقاد " الإيمان بالميزان الذي يكون يوم القيامة ".
وسوف نتناول بعض المسائل المتعلقة به:
مسألة: الميزان الذي توزن به الأعمال يوم القيامة ثابت بالكتاب والسُنَّة المتواترة، كما قال تعالى (ونضعُ الموازينَ القسطَ ليومِ القيامة) وقال تعالى (والوزنُ يومئذٍ الحقُّ)، والأحاديث كثيرة وسوف نذكرها في ثنايا البحث.
مسألة: جاء في صفة الميزان أن له كفتان توضع فيهما الحسنات والسيئات كما في حديث صاحب البطاقة المشهور، وقال بعض العلماء: إن الميزان له لسان، وفيه أثر عن ابن عباس والحسن البصري، ولم يصح في ذلك حديث مرفوع.
مسألة: سعة الميزان، جاء في الحديث (يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت) رواه الحاكم وصححه الألباني.
مسألة: اختلف أهل العلم هل هو ميزان واحد توزن به أعمال العباد أم أن الموازين متعددة ولكل شخص ميزانه الخاص.
فمن قال بالتعدد استدلوا بأن الميزان قد ورد في بعض الآيات بصيغة الجمع، مثل قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) الأنبياء /47.
ومن قال بأنه واحد استدلوا بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي) رواه الحاكم وصححه الألباني السلسلة الصحيحة (941).
وحملوا الآية التي ورد فيها الميزان بصيغة الجمع على تعدد الموزونات من الأعمال والأقوال والصحف والأشخاص.
مسألة: ما هو الشيء الذي يوزن؟
1- الأقوال توزن، والدليل قول النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ) رواه البخاري.
2- الأعمال توزن، والدليل قول النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ) رواه الترمذي بسندٍ صحيح.
3- صحف الأعمال توزن، والدليل قول النبي صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ فَيَقُولُ لَا يَا رَبِّ فَيَقُولُ أَفَلَكَ عُذْرٌ فَيَقُولُ لا يَا رَبِّ فَيَقُولُ بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَيَقُولُ احْضُرْ وَزْنَكَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ فَقَالَ إِنَّكَ لا تُظْلَمُ قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ فَطَاشَتِ السِّجِلاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ فَلا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ ) رواه الترمذي بسندٍ صحيح.
4- الشخص يوزن، والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ اقْرَءُوا (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا) رواه البخاري.
وكذلك يدل عليه ما ثبت من أن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِمَّ تَضْحَكُون؟ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ) رواه أحمد بسندٍ حسن.
مسألة: كيف توزن الأعمال وهي ليست أجسام؟
الجواب: إن الله قادر أن يجعل للأعمال أجسام ظاهرة لتوزن، كما ورد أن سورة البقرة وآل عمران تأتيان كغمامتان، وكما في حديث العمل الصالح الذي يأتي للميت في قبره كهيئة رجل حسن الوجه، وحديث أن الموت يؤتى به يوم القيامة على هيئة كبش فيذبح بين الجنة والنار.
مسألة: ماهي الحكمة من الميزان؟
قيل: امتحان لإيمان العباد به في الدنيا، وإظهار علامة السعادة والشقاوة في الآخرة، والإعلام بأن الله عادل لا يظلم. قاله ابن الجوزي.
مسألة: أحوال الناس في الميزان:
منهم من ترجح حسناته، وهم الفائزون، قال تعالى (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون)، وقال تعالى (فمن ثقلت موازين فهو في عيشة راضية)، وهم أصناف متعددة في الفوز حسب حسناتهم، حتى لو كان عندهم شيء من الذنوب الكبيرة، لأن الحسنات غلبت.
مسألة: من هم أهل الأعراف؟
الأعراف سور مرتفع بين الجنة والنار، وأهل الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، يبقون على جبل الأعراف مدة، الله أعلم بها، ثم مصيرهم للجنة، وهذا رأي جماهير الصحابة رضي الله عنهم.
مسألة: مَن رجحت سيئاته، هل لابد أن يدخل النار، أو هو تحت المشيئة؟
قيل: إنه تحت المشيئة، واختاره ابن حجر والقرطبي.
وقيل: لابد مِن دخوله النار، وهو قول أكثر العلماء لعموم الآيات في ذلك، ورجحه ابن تيمية وابن القيم، وهذا يؤكد خطر الإصرار على الكبائر.
ولهذا مَن مات مصراً على الكبائر ولم يحصل على موانع الوعيد الكثيرة التي منها، التوبة، المصائب المكفرة، الحسنات الماحية، شدة القبر، أهوال القيامة، الشفاعة، رحمة الله، فمعنى ذلك أنه لابد من دخول النار للتطهير.
مسألة: الوزن يكون بعد الحساب على الله تعالى، مع العلم أن هناك مَن يُغفر له في الحساب كما في حديث عرْض المؤمن، حينما يقول الله للعبد: (سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم) رواه البخاري.
قال القرطبي: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، لأن الوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها.
مسألة: الشفاعة تكون بعد الوزن، كما في ظاهر النصوص، لأنَّ مِن أنواع الشفاعة ما يكون لأهل الكبائر، كحديث (شفاعتي لأهل الكبائر مِن أمتي) رواه الترمذي بسندٍ صحيح، فيأذن الله في الشفاعة لمن شاء مِن الأنبياء وغيرهم، وهناك قد تشمل الشفاعة بعض الذين خفَّ حسناتهم في الميزان.
مسألة: هل توزن أعمال الكفار؟
قيل: توزن لعموم الآيات، ومنها قوله تعالى (ومَن خفت موازينه).
وقيل: لا توزن، لقوله تعالى (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً)، ولكن قيل إن المراد أي لا نقيم لهم قدراً ومكانة.
وقيل: التفصيل، فمنهم من يوزن، ومنهم لا يوزن.
والصواب أنه يُنصب له ميزان، لا لأجل الحسنات ولكن ليظهر له خفة ميزانه، وتبكيتاً له، ولبيان مراتب العذاب للكفار، فلا يستوون لتفاوت كفرهم ومعاصيهم، لأن النار دركات.
تنبيهات مهمة:
1- مِن الحسنات التي تكون في الميزان، ما يُهدى للشخص بعد موته مِن الحسنات كالصدقات، ولهذا أوصيك أن تتصدق لبعض الأموات الذين تحبهم لكي يكون ذلك الثواب في ميزانهم يوم القيامة، وما يدريك لعل سيئاتهم أكثر مِن حسناتهم، فتكون أنتَ السبب بعد الله في إنقاذهم مِن النار بسبب صدقاتك التي ستكون في ميزان حسناتهم.
2- العمل المقبول عند الله هو الذي يوزن، ونحن لانجزم بأنَّ كل أعمالنا مقبولة، لهذا يجب أن نحرص على أداء العمل على أحسن حال مِن الإخلاص والمتابعة ونحذر مِن الرياء والبدع لأنها تؤثر في قبول العمل عند الله، وكم مِن عاملٍ ليس له مِن عمله إلا التعب، وينطبق عليه قوله تعالى (وقدمنا إلى ما عملوا مِن عمل فجعلناه هباءً منثوراً).
3- اعلم أن هناك مُقاصَّة بين حقوق العباد، فيأخذ المظلوم مِن حسنات الآخر، وقد يوضع مِن سيئات المظلوم على الظالم إن لم تكفي حسناته لمن ظلمه، ثم يكون الوزن الدقيق بعد ذلك، وهذا يدعوك للحذر والانتباه مِن أن تأتي يوم القيامة بحسنات ولكنك ستخسرها عندما يأخذها أصحاب الحقوق منك، ممن تكلمت فيهم أو أخذت أموالهم أو ظلمتهم بأي لون مِن ألوان الظلم.
4- احرص في كل يوم على كل عمل صالح ولو كان يسيراً لأنه سيؤتى به ليوضع في الميزان، كما قال تعالى (وإن كان مثقال حبةٍ مِن خردلٍ أتينا به وكفى بنا حاسبين).
5- احذر مِن صغائر الذنوب قبل كبارها، لأن كل ذنب ولو كان صغيراً سيؤتى به ليوضع في الميزان، كما قال تعالى (وإن كان مثقال حبةٍ مِن خردلٍ أتينا به وكفى بنا حاسبين).
6- احرص على أن تشارك في الأعمال المتعدية مثل الأوقاف التي يبقى لك نفعها بعد موتك، فتكثر حسناتك لتكون في ميزانك يوم القيامة، وكم مِن ميتٍ له عشرات السنين ومع ذلك فإن حسناته في ازدياد بسبب ذلك الوقف.
7- مِن الأعمال المتعدية التي تنتشر في المجتمع " الدعوة إلى الله " فانظر كم انتفع بك من أناس، فهذا كله سيكون في ميزانك يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم: مَن دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله. رواه مسلم.
ولك أن تتخيل أنك كفلت داعية في إحدى بلاد أفريقيا أو شرق آسيا، وقام بعدة برامج دعوية وأسلم على يديه العدد الكثير، فاعلم أن كل أعمال أولئك في ميزان حسناتك يوم القيامة، وكل ما يتسببون فيه مِن هداية أحد أو تعليمه فإن الأجر يعود لك، وهكذا تكون قد كسبتَ حسناتٍ لا يحصيها إلا الله، نسأل الله أن يرزقنا من واسع فضله.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، اللهم ارزقنا الاستعداد ليوم المعاد.
مواد آخرى من نفس القسم
مكتبة الصوتيات
((100)) حديث ضعيف منتشر بين الناس
0:00
اقرأ في سير الناجحين
0:00
تلاوة من سورة النساء
0:00
المرأة والدعوة إلى الله
0:00
تلاوة من سورة الأنبياء 51-71
0:00
عدد الزوار
5103195
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 27 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1616 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |