• الخميس 18 رَمَضان 1445 هـ ,الموافق :28 مارس 2024 م


  • فوائد من كتاب طريق الهجرتين لابن القيم .

  •  

    7- العبد المؤمن له في كل وقت هجرتان:

    1- هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإِنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاءِ والإِقبال عليه وصدق اللجإِ والافتقار في كل نَفَس إِليه .

    2- وهجرة إِلى رسوله فى حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذى هو تفصيل محابّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أَحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد .

    ولما كانت السعادة دائرة- نفياً وإِثباتاً- مع ما جاءَ به كان جديراً بمن نصح نفسه أَن يجعل لحظات عمره وقفاً على معرفته وإِرادته مقصورة على محابه، وهذا أَعلى همة شمَّر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون .

    8- قال الله سبحانه: " يا أيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله والله هو الغني الحميد " [فاطر: 15] .

    بيَّن سبحانه فى هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم ، كما أن كونه غنياً حميداً أمر ذاتى له، فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأمر أوجبه .

    9- فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق ، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام ، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة ، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل .

    11- الفقر إلى الله نوعان:

    فقر إلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأسرها .

    وفقر إلى ألوهيته وهو فقر أنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع .

    18- والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين فى جوفه ، فبقدر ما يدخل القلب من همٍّ وإرادة وحب يخرج منه همٌّ وإرادة وحُبٌ يقابله، فهو إناء واحد والأشربة متعددة ، فأي شراب ملأه لم يبق فيه موضع لغيره، وإنما يمتليء الإناء بأعلى الأشربة إذا صادفه خالياً، فأما إذا صادفه ممتلئا من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم:

    أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى  فصادف قلبا خاليا فتمكنا .

    33- ولما كان الفقر إلى الله عز وجل هو عين الغنى به ، فأفقر الناس إلى الله أغناهم به، وأذلهّم له أعزّهم، وأضعفهم بين يديه أقواهم، وأجهلهم عند نفسه أعلمهم بالله وأمقتهم لنفسه أقربهم إلى مرضاة الله .

    41- كمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه .

    45- توحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، ولذلك وقع الاحتجاج به في القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية .

    45- لفظ الجلالة " الله ".

    فإن هذا الاسم هو الجامع ، ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله، ولا يقال: الله من أسماء الرحمن، قال الله تعالى: " ولله الأسماء الحسنى " [الأعراف: 180] .

    61- قاعدة في المحبة .

    وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أن كل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته وعذابه أعظم من نعيمه .

    ويزيد ذلك إيضاحاً أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته ، فإنه يخذل من تلك الجهة.

    وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء فإنه ما علّق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغيره إلا خُذِل .

    63- قاعدة مع الناس .

    السعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم في الله، وخاف الله فيهم ولم يخفهم في الله وأرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله، وآثر الله عليهم ولم يؤثرهم في الله، وأمات خوفهم ورجاءهم وحبهم من قلبه وأحي حب الله وخوفه ورجاءه فيه .

    66- استشعار أن قلبك بيد الله .

    القلب مربوب مقهور تحت سلطان الله لا يتحرك إلا بإذنه ومشيئته، قال أعلم الخلق بربه صلوات وسلامه عليه: " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه " .

    ثم قال: " اللهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " .

    وكان أكثر يمينه: " لا ومقلب القلوب " .

    وقال بعض السلف: مثل القلب مثل الريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا لبطن ، فما حيلة قلب هو بيد مقلبه ومصرفه .

    93- حكمة الله في كل شيء .

    ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة .

    والحكمة هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تتضمن العلم بالحق والعمل به والخبر عنه والأمر به ، فكل هذا يسمى حكمة وفى الأثر " الحكمة ضالة المؤمن " ، وفي الحديث: " إنّ مِن الشعر حكمة " .

    95- أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلا بها لم يشكرها .

    ومن عرفها ولم يعرف المُنعم بها لم يشكرها أيضا .

    ومن عرف النعمة والمُنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها .

    ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرض به وعنه لم يشكرها أيضا .

    ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقربها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضى به وعنه واستعملها فى محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها.

    فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له .

    97- اختيار الله للأنبياء وللدعاة .

    فالله عز وجل أعلم حيث يجعل رسالاته أصلاً وميراثاً فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه، ومن لا يصلح لذلك.

    وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم .

    99- الاصطفاء الرباني .

    فالرب سبحانه إذا علم مِن محلٍ أهلية لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبّبَ إليك ذلك ووضعه فيه وكتبه في قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسَّر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك .

    ثم تولَّاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أعظم من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذي هو أحب شيء إليه، فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به، فيزداد العبد به معرفة وله محبته وإليه إنابة وعليه توكلا، ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه .

    99- والمقصود أن الله سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها ومن لا يصلح، وأن حكمته تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله، كما تأبى أن يمنعه من يصلح له.

    وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحاً وجعله أهلاً وقابلاً، فمنه الإعداد والإمداد، ومنه السبب والمسبب.

    108- قال تعالى: " وخُلِق الإنسان ضعيفاً " [النساء: 28] .

    قال طاووس ومقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساء ، وقال الحسن: هو خلقه من ماء مهين ، وقال الزجاج: ضعف عزمه عن قهر الهوى.

    والصواب أن ضعفه يعم هذا كله ، وضعفه أعظم من هذا وأكثر ، فإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم ضعيف الصبر، والآفات إليه مع هذا الضعف أسرع من السيل في صيب الحدود.

    فبالإضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أقرب إليه من نفسه.

    110- والمقصود أن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح وإنما يحصل ذلك بالحكمة معها .

    114- والمقصود أن الرب أسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم سوء، وأوصافه كلها كمال ليس فيها صفة نقص ، وأفعاله كلها حكمة ليس فيها فعل خال عن الحكمة والمصلحة .

    119- الاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية .

    121- خلق الله الملائكة عقولاً لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد من مادة نورية لا تقتضى شيئاً من الآثار والطبائع المذمومة .

    وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها .

    وخلق الثقلين الجن والإنس وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثار مختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها.

    وهؤلاء هم أهل الامتحان والابتلاء ، وهم المعرضون للثواب والعقاب ولو شاء سبحانه لجعل خلقه على طبيعة واحدة وخلْقٍ واحد ولم يفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية .

    123- قال تعالى: " يسأله من فى السموات والأرض كل يوم هو في شأن " [الرحمن: 29]  .

    يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويكشف غماً وينصر مظلوماً ويأخذ ظالماً ويفك عانياً ويغنى فقيراً ويجبر كسيراً ويشفي مريضاً ويقيل عثرة ويستر عورة ويعز ذليلاً ويُذل عزيزاً ويُعطي سائلاً ويذهب بدولة ويأتي بأخرى ويداول الأيام بين الناس ويرفع أقواماً ويضع آخرين .

    يسوق المقادير التي قدرها قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام إلى مواقيتها فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأخر، بل كل منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه وجرى به قلمه .

    129- ولمحبته لأسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل والإحسان والبر والعفو والجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأناة والتثبت .

    ولمّاكان سبحانه يحب أسماءه وصفاته كان أحب الخلق إليه من اتصف بالصفات التى يحبها، وأبغضهم إليه من اتصف بالصفات التى يكرهها، فإنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت لأن اتصافه بها ظلم، إذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه، لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحده .

    145- الصراع بين الحق والباطل .

    فتأمل كيف اقتضى الحق وجود الباطل، وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل، وكيف كان كفر أعداء الرسل بهم وتكذيبهم لهم ودفعهم ما جاؤوا به وهو من تمام صدق الرسل وثبوت رسالات الله وقيام حججه على العباد .

    ولنضرب لذلك مثالاً يتبين به ، وهو مَلِك له عبد قد توحّد في العالم بالشجاعة والبسالة ، والناس بين مصدق ومكذب، فمن قائل: هو كذلك ومن قائل: هو بخلاف ما يظن به ، فإنه لم يقابل الشجعان ولا واجه الأقران، ولو بارز الأقران وقابل الشجاعة لظهر أمره وانكشف حاله.

    فسمع به شجعان العالم وأبطالهم فقصدوه من كل صوب وأتوه من كل قطر، فأراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة فمكن أولئك الشجعان من منازلته ومقاومته وقال: دونكم وإياه وشأنكم به.

    فهل تسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه إلا لإعلاء شأنه وإظهار شجاعته في العالم وتخويف أعدائه به، وقضاء الملك أوطاره به، كما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته وحصول مقصوده بذلك .

    فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته وظهور عجزهم وفضيحتهم وخزيهم .

    163- " قاعدة في الابتلاء " .

    إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن فإن ردّه ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به.

    والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عُوِّض منها أجلّ عِوض وأفضله .

    وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائباً عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً ، وكانت البلية في حق هذا عين النعمة .

    وإن لم يرده ذلك البلاء إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به .

    169- من الحكم في الوقوع في الذنب :

    ظهور مشهد الحكمة ، وهو أن يشهد حكمة الله في تخليته بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئتة أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله:

    أحدها : أنه يحب التوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة.

    الثاني : تعريف العبد عزة الله سبحانه في قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه.

    الثالث : تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.

    الرابع : استجلابه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال بين يديه.

    الخامس : إرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه ، فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذل وتيقن وتمنى أنه وأنه.

    السادس : تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطائة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله من به عليه لا من نفسه.

    السابع: تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه في ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش.

    الثامن: تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.

    التاسع: تعريفه كرمه في قبول توبته ومعرفته له على ظلمه وإساءته.

    العاشر: إقامة الحجة على عبده، فإن له عليه الحجة البالغة، فإن عذّبه فبعدله وببعض حقه عليه بل اليسير منه.

    الحادي عشر: أن يعامل عباده في إساءتهم إليه وزلَّاتهم معه بما يجب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.

    الثاني عشر: أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، مع إقامة أمره الله فيهم، فيقيم أمر فيهم رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم.

    الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة.

    الرابع عشر: أن يعريه من رداء العجب بعمله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أشد منه، العجب " أو كما قال.

    الخامس عشر: أن يعريه من لباس الإدلال الذي يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذى لا يليق بالعبد سواه.

    السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.

    السابع عشر: أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله في توفيقه وعصمته، فإن من تربى في العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية.

    الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه، فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة وإن كان يحصل بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.

    التاسع عشر: أنه إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله، فاستقل الكثير من عمله لعلمه بأن الذي يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله، فهو دائماً مستقل لعلمه كائنا ما كان، ولو لم يكن في فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافيا.

    العشرون: أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذي ذاق المرض والدواء.

    الواحد والعشرون: أن يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته أو فرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه وجمعه عليه وأقامه في طاعته، فيكون التذاذه في ذلك- بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه.

    وإنّ لطفَ الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته.

    الثاني والعشرون: امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنه إذا وقع الذنب، سلب حلاوة الطاعة والقرب، ووقع في الوحشة.

    فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة فحنَّت وأنَّت وتضرعت واستعانت بربها ليردها إلى ما عودها من بره ولطفه، وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ومألفها ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله، وقد جاء هذا بعينه في أثر إلهي لا أحفظه.

    الثالث والعشرون: أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه .

    فإن الله إذا أراد بعبد خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقبل من الأعمال رُفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذِكره.

    وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟
    قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذلَّ لربه وزال عنه عجبه وكبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمنَّ بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار.

    الرابع والعشرون: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه في شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسى عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأول علامة السعادة، والثاني علامة الشقاوة.

    175- قاعدة في ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة فى الأحوال والأقوال والأعمال، وهى شيئان:

    أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء، لأنها هي بذر الشيطان، والنفس في أرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال .

    ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذا لم يدفعها وهي خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت في حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها .

    فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟

    قلت: أسباب عدة :

    أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك.

    الثاني: حياؤك منه.

    الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذى خلقه لمعرفته ومحبته.

    الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.

    الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.

    السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر ويستعر شرارها فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.

    السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يُلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة في فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.

    الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان ودواعي المحبة والإنابة أصلا، بل هي ضدها من كل وجه، وما اجتمعا في قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة فأخرجتها واستوطنت مكانها، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه.

    التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه وتاه في ظلماته فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلا، فقلبٌ تملكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد.

    العاشر: أن تلك الخواطر هي وادي الحمقى وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي ، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها وأفسدت عليه رعيته وألقته في الأسر الطويل كما أن هذا معلوم في الخواطر النفسانية .

    فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هي أصل الخير كله، فإن أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاء الثواب، وسقيت مرة بعد مرة، وتعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطاعات.

    176- صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته، فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى ربه تعالى وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أخرى وعلوما أخر .

    177- والمقصود أن صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه، من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه.

    177- قاعدة شريفة .

    الناس قسمان: علية وسفلة ، فالعلية من عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصدا الوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه.

    والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذي قال الله تعالى فيه: " ومن يهن الله فما له من مكرم " [الحج: 18] .

    والطريق إلى الله في الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذي نصبه موصلا لمن سلكه إليه .

    قال الله تعالى: " وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل" [الأنعام: 153] .

    فوحَّد سبيله لأنه في نفسه واحد لا تعدد فيه، وجمع السبل المخالفة لأنها كثيرة متعددة .

    كما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطا ثم قال: "هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ثم قال: هذا سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: " وأن هذا صراطى مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " [الأنعام:153] .

    ومن هذا قوله تعالى: " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " [البقرة: 257] .

    فوحّد النور الذى هو سبيله وجميع الظلمات التي هي سبيل الشيطان.

    ومن فهم هذا فهم السر في إفراد النور وجمع الظلمات في قوله تعالى: " الحمد لله الذى خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور " [الأنعام:1] .

    مع أن فيه سراً ألطف من هذا يعرفه من يعرف منبع النور ومن أين فاض وعماذا حصل وأن أصله كله واحد، وأما الظلمات فهي متعددة بتعدد الحجب المقتضية لها، وهي كثيرة جدا، لكل حجاب ظلمة خاصة، ولا ترجع الظلمات إلى النور الهادي جل جلاله أصلا .

    178- والمقصود أن الطريق إلى الله تعالى واحد، فإنه الحق المبين والحق واحد، مرجعه إلى واحد.

    وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه متعددة.

    180- فأيّ قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه ؟

    هذا ما لا يكون أبدا، ومن ذاق شيئا من ذلك وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع في آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب في حياته عذابا لم يعذبه أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كدر وحسرة، ومعاده أسف وندامة .

    181- فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاء والبؤس والبخس في أحواله وأعماله وقارنه سوء الحال وفساده في دينه ومآله .

    فإنَّ الرب تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت أنوارها وظهرت عليها وحشة الإعراض وصارت مأوى للشياطين وهدفا للشرور ومصبا للبلاء .

    183- قاعدة .

    السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين:

    1- قوة علمية .

    2- قوة عملية ، فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل.

    وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر.

    185- قاعدة نافعة .

    العبد من حين استقرت قدمه في هذا الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له ، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه تعالى، ثم قد جعلت الأيام والليالى مراحل لسفره ، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر.

    200- ظلم النفس نوعان .

    1- نوع لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية والصديقية والاصطفاء وهو ظلمها بالشرك والكفر .

    2- نوع يبقى معه حظه من الإيمان والاصطفاء والولاية وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدر والوصف.

    205- فوائد معرفة حال السابقين المقربين .

    منها: أن لا يزال المتخلف المسكين مُزرياً على نفسه ذاماً لها.

    ومنها: أنه لا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى ذليلاً له حقيراً يشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين، ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرومين.

    ومنها: أنه عساه أن تنهض همته يوماً إلى التشبث والتعلّق بساقة القوم ولو من بعيد.

    ومنها: أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجأ إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه لأعمالهم فيصادف ساعة إجابة لا يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه.

    وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر فلا ينبغي أن تصغي إلى من يثبطك عنه وتقول إنه لا ينفع ، بل احذره واستعن بالله ولا تعجز ولكن لا تغتر .

    وفرق بين العلم والحال، وإياك أن تظن أنك بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله، هيهات، ما أظهر الفرق بين العلم بوجوه الغنى وهو فقير ، وبين الغنى بالفعل، وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبين الصحيح بالفعل.

    215- فالسير إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب، وفتحه عجب ، صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعب ولا مكدود .

    227- الفرق بين الصبر على الأقدار وبين الصبر عن المعاصي .

    لهذا كان بين ابتلاء يوسف الصديق بما فعل به إخوته من الأذى والإلقاء في الجُب وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه .

    وابتلائه بمراودة المرأة له وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهى الداعية له إلى ذلك، فرق عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاء .
    فإن الشباب داع إلى الشهوة ، والشاب قد يستحي من أهله ومعارفه من قضاء وطره، فإذا صار في دار الغربة زال ذلك الاستحياء والاحتشام، وإذا كان عزباً كان أشد لشهوته، وإذا كانت المرأة هي الطالبة كان أشد وإذا كانت جميلة كان أعظم .

    فإن كانت ذات منصب كان أقوى في الشهوة، فإن كان ذلك في دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ .

    فإن استوثقت بتغليق الأبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضاً للطلب، فإن كان الرجل مملوكها وهي كالحاكمة عليه الآمرة الناهية له كان أبلغ في الداعي ، فإذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبة للرجل قد امتلأ قلبها من حبه، فهذا الابتلاء الذي صبر معه مثل الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم صلوات الله عليهم أجمعين.

    ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأول .

    243-  كلما عظم المطلوب كثرت العوارض والموانع دونه، هذه سنة الله في الخلق.

    فانظر إلى الجنة وعظمتها وإلى الموانع والقواطع التي حالت دونها حتى أوجبت أن ذهب من كل ألف رجل واحد إليها .

    245- إذا أذنب الرجل الصالح ثم تاب فهل يعود لمنزلته قبل وقوعه في الذنب أم لا ؟

    قال ابن تيمية : الصواب أن من التائبين من يعود إلى مثل حاله، ومنهم من يعود إلى أكمل منها ، ومنهم من يعود إلى أنقص مما كان.

    فإن كان بعد التوبة خيراً مما كان قبل الخطيئة وأشد حذراً وأعظم تشميراً وأعظم ذُلاً وخشية وإنابة عاد إلى أرفع مما كان .

    وإن كان قبل الخطيئة أكمل في هذه الأمور ولم يعد بعد التوبة إليها عاد إلى أنقص مما كان عليه .

    وإن كان بعد التوبة مثل ما كان قبل الخطيئة رجع إلى مثل منزلته ، هذا معنى كلامه رضي الله عنه .

    250- معنى يبدل سيئاتهم حسنات . تفصيل طويل .

    270- قاعدة : الصبر عن المعصية ينشأ من أسباب عديدة .

    أحدها : علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدنايا والرذائل، كما يحمى الوالد الشفيق والده عما يضره. وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد بالعذاب.

    السبب الثاني : الحياء من الله سبحانه، فإن العبد متى علم بنظره إليه ومقامه عليه وأنه بمرأى منه ومسمع- وكان حياً حييا- استحى من ربه أن يتعرض لمساخطه.

    السبب الثالث : مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك، فإن الذنوب تزيل النعم ولا بد، فما أذنب عبد ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب وراجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصرَّ لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة حتى تسلب النعم كلها، قال الله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " [الرعد: 11] .

    وقال بعض السلف: أذنبتُ ذنباً فحرمت قيام الليل سنة ، وقال آخر: أذنبتُ ذنباً فحرمت فهم القرآن.

    وفى مثل هذا قيل:

    إذا كنتَ في نعمة فارعها   فإن المعاصي تزيل النعم

    وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب، عياذا بالله من زوال نعمته وتحويل عافيته.

    السبب الرابع : خوف الله وخشية عقابه ، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله.

    وهذا السبب يقوى بالعلم واليقين ويضعف بضعفهما ، قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " [فاطر:28] .

    وقال بعض السلف: كفى بخشية الله علماً وبالاغترار بالله جهلا.

    السبب الخامس : محبة الله سبحانه وهي أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه.

    فإن المحب لمن يحب مطيع، وكلما قوي سلطان المحبة في القلب كان اقتضاؤه للطاعة وترك المخالفة أقوى، وإنما تصدر المعصية والمخالفة من ضعف المحبة وسلطانها .

    وفرق بين من يحمله على ترك معصية سيده خوفه من سوطه وعقوبته، وبين من يحمله على ذلك حبه لسيده .

    السبب السادس : شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوى بينها وبين السفلة.

    السبب السابع : قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشيء ، ومن تلك العقوبات : سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمه، وحزنه وألمه، وانحصاره، وشدة قلقه واضطرابه، وتمزق شمله ، وضعفه عن مقاومة عدوه، وتعريه من زينته، والحيرة فى أمره وتخلي وليه وناصره عنه، وتولي عدوه المبين له .

    ومنها : زوال أمنه وتبدله به مخافة، فأخوف الناس أشدهم إساءة، ومنها زوال الأنس والاستبدال به وحشة، وكلما ازداد إساءة ازداد وحشة، ومنها زوال الرضى واستبداله بالسخط ، ومنها زوال الطمأنينة بالله والسكون إليه والإيواء .

    274- وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً ، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته .

    وفي بعض الآثار يقول الله سبحانه وتعالى: من ذا الذي أطاعني فشقي بطاعتي ؟ ومن ذا الذي عصاني فسعد بمعصيتي ؟

    274- ومما يعين على ترك المعاصي .

    السبب الثامن : قصر الأمل ، وعلمه بسرعة انتقاله ، وأنه كمسافر دخل قرية وهو مزمع على الخروج منها، أو كراكب استراح في ظل شجرة ثم سار وتركها.

    فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضره ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل ولا أضر من التسويف وطول الأمل.

    275- السبب التاسع : مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس، فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعداه إلى الحرام.

    السبب العاشر: وهو الجامع لهذه الأسباب كلها ثبات شجرة الإيمان في القلب، فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر .

    ومن ظن أنه يقوى على ترك المخالفات والمعاصي بدون الإيمان الراسخ الثابت فقد غلط ، فإذا قوي سراج الإيمان في القلب، وأضاءت جهاته كلها به، وأشرق نوره في أرجائه .

    276- وههنا مسألة تكلم فيها الناس، وهى أي الصبرين أفضل صبر العبد عن المعصية ، أم صبره على الطاعة ؟

    وفصل النزاع في ذلك أن هذا يختلف باختلاف الطاعة والمعصية .

    فالصبر على الطاعة العظيمة الكبيرة أفضل من الصبر عن المعصية الصغيرة الدنية ، والصبر عن المعصية الكبيرة أفضل من الصبر على الطاعة الصغيرة، وصبر العبد على الجهاد مثلا أفضل وأعظم من صبره عن كثير من الصغائر، وصبره عن كبائر الإثم والفواحش أعظم من صبره على صلاة الضحى .

    276- والصبر على البلاء ينشأ من أسباب عديدة :

    أحدها : شهود جزائها وثوابها.

    الثاني : شهود تكفيرها للسيئات ومحوها لها.

    الثالث : شهود القدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يخلق فلا بد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.

    الرابع: شهوده حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلا بد له منه وإلا تضاعفت عليه.

    الخامس: شهود ترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: " ومآ أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " [الشورى: 30] ، فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فيشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم الأسباب في دفع تلك المصيبة.

    قال علي بن أبى طالب: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِع بلاء إلا بتوبة.

    السادس : أن يعلم أن الله قد ارتضاها له واختاره وقسمها وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي له به سيده ومولاه .

    السابع : أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواء نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلا.

    الثامن : أن يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره ، قال الله تعالى: " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون " [البقرة: 216] .

    التاسع : أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله، وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه، فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟

    فإن ثبت اصطفاه واجتباه وألبسه ملابس الفضل وجعل أولياءه وحزبه خدما له وعونا له، وإن انقلب على وجه ونكص على عقبيه طرد وصفع قفاه وأقصى وتضاعفت عليه المصيبة .

    العاشر: أن يعلم أن الله يربي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال.

    فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال .

    278- اعلم أن الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان ولا من منازل السائرين.

    ولهذا لم يأمر الله به في موضع قط ولا أثنى عليه، ولا رتب عليه جزاء ولا ثوابا، بل نهى عنه فى غير موضع كقوله تعالى: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " [آل عمران: 139]  .

    279- استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من ثمانية أشياء كل شيئين منها قرينان ، فالهمَّ والحُزن قرينان، وهما الألم الوارد على القلب، فإن كان على ما مضى فهو الحزن، وإن كان على ما يستقبل فهو الهم.

    فالألم الوارد إن كان مصدره فوت الماضى أثر الحزن، وإن كان مصدره خوف الآتي أثر الهم.

    والعجز والكسل قرينان، فإنَّ تخلُف مصلحة العبد وبعدها عنه إن كان من عدم القدرة فهو عجز، وإن كان من عدم الإرادة فهو كسل .

    والجُبن والبُخل قرينان، فإن الإحسان يُفرح القلب ويشرح الصدر ويجلب النعم ويدفع النقم، وتركه يوجب الضيم والضيق ويمنع وصول النعم إليه، فالجبن ترك الإحسان بالبدن، والبخل ترك الإحسان بالمال .

    وضلع الدين وغلبة الرجال قرينان، فإن القهر والغلبة الحاصلة للعبد إما منه وإما من غيره، وإن شئت قلت: إما بحق وإما بباطل من غيره.

    283- نقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرف الناس أخشاهم لله، ومن عرف الله اشتد حياؤه منه وخوفه له وحبه له، وكلما ازداد معرفة ازداد حياءً وخوفاً وحباً .

    307- كلام عن الصلاة .

    قال بعض السلف: ليس بمستكمل الإيمان من لم يزل في هم وغم حتى تحضر الصلاة فيزول همه وغمه، أو كما قال.

    فالصلاة قرة عيون المحبين وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم .

    وبالجملة فمن كانت قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه ولا أنعم عنده منها، ويود أن لو قطع عمره بها غير مشتغل بغيرها، وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب فهو دائماً يثوب إليها ولا يقضي منها وطراً .

    315- مما يقوي محبة الله في القلب .

    المحبة التي تنشأ من الإحسان، ومطالعة الآلاء والنعم .

    فإن القلوب جُبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليه، ولا أحد أعظم إحساناً من الله سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله.

    ويكفي أن تعرف نعمة النفس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه في كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس، وكل نفس نعمة منه سبحانه .

    فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم أربعة وعشرين ألف نعمة فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " [إبراهيم: 34] [النحل: 18] ، هذا إلى ما يُصرف عنه من المضرات وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور به بأكثرها أصلا .

    316- من عطاء الله وكرمه .

    ولو لم يكن من تحبب الله إلى عباده وإحسانه إليهم وبره بهم إلا أنه سبحانه خلق لهم ما في السموات والأرض وما في الدنيا والآخرة، ثم أهلهم وكرمهم، وأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة .

    وكتب لهم بالسيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة، وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفره غفر له، ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئا لأتاه بقرابها مغفرة .

    وشرع لهم التوبة الهادمة للذنوب فوفقهم لفعلها ثم قبلها منهم .

    317- فانظر إلى هذه العناية وهذا الإحسان وهذا التحنن والعطف والتحبب إلى العباد واللطف التام بهم، ومع هذا كله بعد أن أرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه وتعرف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم ويستعرض حوائجهم بنفسه ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مسيئهم إلى التوبة ومريضهم إلى أن يسأله أن يشفيه وفقيرهم إلى أن يسأله وهكذا كل ليلة .

    318- تفكر في إحسان الله وفي جماله سبحانه وتعالى .

    فإذا انضم داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال لم يتخلف عن محبة من هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها وأشدها نقصا وأبعدها من كل خير .

    فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، وإذا كانت هذه فطرة الله التي فطر عليها قلوب عباده .

    فمن المعلوم أنه لا أحد أعظم إحساناً منه سبحانه وتعالى ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمال وجمال في المخلوق من آثار صنعه سبحانه وتعالى .

    وإذا كان الكمال محبوباً لذاته ونفسه وجب أن يكون الله هو المحبوب لذاته وصفاته، إذ لا شيء أكمل منه، وكل اسم من أسمائه وصفة من صفاته تستدعى محبه خاصة فإن أسمائه كلها حسنى وهي مشتقة من صفاته ، وأفعاله دالة عليها فهو المحبوب المحمود لذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه .

    321- قال بعض السلف: إني أدخل الصلاة فأحمل همّ خروجي منها ويضيق صدري إذا عرفتُ أني خارج منها ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "جُعلت قرة عيني في الصلاة " .

    ومن كانت قُرة عينه في شيء فإنه يودَّ أن لا يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به.

    325- العلم حاكم على الأحوال .

    وليس من الإنصاف ردُّ العلم الصحيح بمجرد الذوق والحال، وهذا أصل الضلالة، ومنه دخل الداخل على كثير من السالكين في تحكيم أذواقهم ومواجيدهم على العلم، فكانت فتنة في الأرض وفساد كبير.

    329- قاعدة في الأسماء والصفات .

    فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقاً لمعنى أسمائه وصفاته .

    فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف، والكريم الجواد أكمل من السخي ، والخالق الباريء المصور أكمل من الصانع الفاعل، ولهذا لم تجيء هذه في أسمائه الحسنى، والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق والمشفق .

    351- كلام جميل عن العلماء .

    العلماء هم ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا ودعوة للخلق إلى الله ، ولهذا أفضل مراتب الخلق بعد الرسالة والنبوة وهى مرتبة الصديقية .

    قرنهم الله في كتابه بالأنبياء فقال تعالى: " ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا " [النساء:69] .

    فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته، فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك .

    353- فضل العلم .

    وقد ذكرنا مائتي دليل على فضل العلم وأهله في كتاب مفرد، فيالها من مرتبة ما أعلاها، ومنقبة ما أجلها وأسناها، أن يكون المرء في حياته مشغولاً ببعض أشغاله، أو في قبره قد صار أشلاءً متمزقاً وأوصالاً متفرقة، وصُحف حسناته متزايدة يملى فيها الحسنات كل وقت، وأعمال الخير مهداة إليه من حيث لا يحتسب .

    تلك والله المكارم والغنائم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وعليه يحسد الحاسدون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

    وحقيق بمرتبة هذا شأنها أن تنفق نفائس الأنفاس عليها .

    376- وقفة تأمل مع قوله تعالى عن الصدقات " وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم " [البقرة: 271] .

    فأخبر أن إعطاءها للفقير في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها.

    وتأمل تقييده تعالى الإخفاء بإيتاء الفقراء خاصة ، ولم يقل: وإن تحفوها فهو خير لكم .

    فإن من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤه كتجهيز جيش وبناء قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد الستر عليه وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى وأنه فقير لا شيء له فيزهدون في معاملته ومعاوضته .

    378- وقفة تأمل مع قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين " [البقرة: 278] .

    فصدر الآية بالأمر بتقواه المضادة للربا وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردوا ما قبضوه به قبل التحريم، وعلّق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم والمعلق على شرط منتف عند انتفائه.

    ثم أكد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشده، وهى محاربة المرابي لله ورسوله فقال تعالى: " فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله " [البقرة: 279] .

    ففي ضمن هذا الوعيد أن المرابي محارب لله ورسوله، قد آذنه الله بحربه، ولم يجيء هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا وقطع الطريق والسعي في الأرض بالفساد، لأن كل واحد منهما مفسد في الأرض، قاطع الطريق على الناس، هذا بقهره لهم وتسليطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها.

    383- اختلف في تفسير الصحابي هل له حكم المرفوع ، أو الموقوف؟

    على قولين: الأول اختيار أبى عبد الله الحاكم .

    والثاني هو الصواب، ولا نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نعلم أنه قاله.

    400- تكلم المؤلف عن صفات الزنادقة .

    421- فائدة في أن الجن مكلفون .

    قال تعالى: " وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا " إلى قوله: " أولئك في ضلال مبين " [الأحقاف:29-32] .

    فهذا يدل على تكليفهم من وجوه متعددة :

    أحدها : أن الله سبحانه وتعالى صرفهم إلى رسوله يستمعون القرآن ليؤمنوا به ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه.

    الثاني : أنهم ولَّوا إلى قومهم منذرين والإنذار هو الإعلام بالخوف بعد انعقاد أسبابه، فعلم أنهم منذرون لهم بالنار إن عصوا الرسول.

    الثالث : أنهم أخبروا أنهم سمعوا القرآن وعقلوه وفهموه وأنه يهدي إلى الحق، وهذا القول منهم يدل على أنهم عالمون بموسى وبالكتاب المنزل عليه، وأن القرآن مصدق له وأنه هاد إلى صراط مستقيم.

    وهذا يدل على تمكينهم من العلم الذي تقوم به الحجة، وهم قادرون على امتثال ما فيه والتكليف إنما يستلزم العقل والقدرة.

    الرابع : إنهم قالوا لقومهم: " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به " [الأحقاف:31] وهذا صريح في أنهم مكلفون مأمورون بإجابة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر.

    الخامس : أنهم قالوا: " يغفر لكم من ذنوبكم " والمغفرة لا تكون إلا عن ذنب وهو مخالفة الأمر.

    السادس : أنهم قالوا: " ويجركم من عذاب أليم " ، وهذا يدل على أن من لم يستجب منهم لداعي الله لم يجره من العذاب الأليم ، وهذا صريح في تعلق الشريعة الإسلامية بهم.

    السابع : أنهم قالوا: " ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء " [الأحقاف: 32] .

    وهذا تهديد لمن تخلف عن إجابة داعي الله منهم .

     

    تم بحمد الله س 8:47 صباح الاثنين 25 / 7 / 1440

     


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    فضل مجالس الذكر

    0:00

    كتابة الإنجازات

    0:00

    ماذا بعد رمضان ؟!

    0:00

    تأملات فيي سورة الفلق

    0:00

    مشاهد من يوم القيامة

    0:00



    عدد الزوار

    4099486

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 21 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 90 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1589 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 996 ) مادة