• الجمعة 24 شَوّال 1445 هـ ,الموافق :03 مايو 2024 م


  • معالم دعوية من حياة نوح عليه الصلاة والسلام

  •  


    في حياة الأنبياء دروس وعبر وتأملات، وفي صفحات حياتهم قصص ومنارات، ولابد للدعاة على مر التاريخ أن يشاهدوها ليستنيروا بها، ويقتبسوا من نورها.

    وبين أيدينا قصة أول رسول اختاره الله لحمل الرسالة، إنه نوح عليه الصلاة والسلام.

    نتجول في سيرته، ونأخذ معالم من دعوته، ونرى كيف واجهه قومه، ونتأمل في قصة الانتقام الرباني لأعدائه.

    - قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد . رواه الحاكم وصححه الألباني.

    وهذا دليل على بقاء الفطرة نقية في تلك الفترة التي لم تتلوث بالفجور والعصيان.

    - بداية الشرك في قوم نوح كان في الغلو في الصالحين ومن أسماءهم ود وسواع ويعوق ونسرا، كانوا على صلاح وعبادة فلما ماتوا قام بعض الناس بتصويرهم نحتاً ورسماً لكي يشاهدهم الناس ويزدادوا نشاطاً في عبادتهم.

    مضى ذلك الجيل وعظموا تلك الصور، ثم جاء جيل آخر وشاهد تلك الصور فغلا فيها غلواً أكبر وعبدوهم من دون الله تعالى، فأرسل الله نوح عليه السلام ليصحح عقيدة أولئك القوم.

    - نتلمس من هذا الغلو درساً في خطر الغلو في الاعتقادات وفي الأقوال والأعمال.

    وتأمل الغلو في الاعتقاد كيف جنح بالرافضة لتأليه علي رضي الله تعالى عنه والحسين، ثم تتابع الغلو عندهم في الأئمة الإثني عشر حتى أوقعوا أنفسهم في تناقضات ومخالفات عقدية، وانظر للغلو عند الخوارج كيف مال للتكفير واستحلال الدماء والخروج على السلطان.

    وانظر للغلو في الأقوال كيف أخرج من بعضهم أقوالاً فيها رفعةً لبعض الناس تتجاوز الحد الميزان الشرعي.

    وهناك غلو في الأعمال أودى ببعضهم للزيادة في الدين والوقوع في الابتداع.

    والمنهج الوسط هو الميزان الحق الذي جاءت نصوص الكتاب والسنة بالحث عليه.

    وحينما تتأمل العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى ترى كلمات من الذهب تضيء معلم الوسطية في العقيدة والمنهج والسلوك. 

    - الاصطفاء الرباني لنوح عليه الصلاة والسلام  ، قال تعالى " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وال إبراهيم وال عمران على العالمين " وقال جل وعز " وربك يخلق ما يشاء ويختار " وأعظم مراتب الاختيار هو الاختيار للرسالة كما قال الله تعالى لموسى " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى " وإذا كانت الرسالات خُتمت برسولنا صلى الله عليه وسلم، فإن تبليغ الدين باق حتى تقوم الساعة، فيا ترى من سيختاره الله لمهمة الأنبياء ليواصل الطريق ويضيء الحياة بنور الوحي المبين؟

    - نوح هو أول رسول بعثه الله تعالى للعالمين، ويدل لذلك ما جاء في حديث الشفاعة حينما يأتي الناس للرسل فيبدأون بنوح ويقولون: أنت أول رسول بعثه الله إلى الأرض . رواه ابن حبان في صحيحه.

    - دعوة نوح هي دعوة جميع الأنبياء، وهي الدعوة للتوحيد وهي عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره ". وقال جلّ وعلى " ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ".

    - توضيح مفهوم عبادة الله وشموليتها لكل نواحي الحياة، وأنها لا تقتصر بجانب العبادة فقط دون بقية حياة الناس، بل هي مهيمنة على كل شيء في واقع الناس وأخلاقهم واقتصادهم وسائر جوانبهم لتكون شريعة الله منطلقاً لكل تصرفاتهم.

    - نوح عليه الصلاة والسلام يُعتبر من أولي العزم من الرسل الذين جاء الحث على الاقتداء بهم كما قال تعالى  " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ".

    - نوح يفوز بالثناء الرباني الكبير " إنه كان عبداً شكورا " ومما يجدر التنبيه له أن الكثير من الناس يعرفون الشكر القولي ويغفلون عن حقيقة الشكر العملي الذي هو الشكر الحقيقي كما قال تعالى " اعملوا آل داود شكراً وقليلٌ من عبادي الشكور " وهذا رسولنا صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ويبكي فيقال له ؟ لماذا تبكي يا رسول الله ؟ فيقول : " أفلا أكون عبداً شكوراً ". رواه البخاري.

    فما أحوجنا إلى توضيح الشكر الحقيقي والتعبد لله تعالى في الليل والنهار لنكون من الشاكرين الذين يحبهم الرحمن.

    أساليب نوح الدعوية :

    عندما نتأمل في حياة نوح عليه الصلاة والسلام الدعوية نجد عدة طرق ومسارات سار عليها في دعوته ومنها:

    - النصح والبيان ، كما قال تعالى عن نوح أنه قال لقومه " وأنصحُ لكم وأعلمُ من الله ما لا تعلمون ".
    والنصيحة هي إرادة الخير للمنصوح، ونوح عليه السلام جاء بالتبليغ فقط، كما قال تعالى " أبلغكم رسالات ربي ".
    وفي هذا إشارة إلى أن الأنبياء هم رسل البلاغ فقط، وليس بعد ذلك شيء، لأن هداية القلوب إنما هي بيد الله تبارك وتعالى، قال تعالى " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ".

    - التجرد من حظوظ الدنيا، وفي تأصيل هذا المبدأ يقول نوح " وياقوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله ".

    وهذا مقصد كل الرسل عليهم الصلاة السلام، صادقون ومخلصون ولا يريدون إلا نصرة الدين وهداية الناس فلا يتطلعون لمال ولا منصب ولا لشهرة ولا لأي حظ من حظوظ الدنيا.

    وكذلك يجب على الدعاة إلى الله تعالى في كل عصر أن يراجعوا مبدأ التجرد الكامل من كل إرادات الدنيا وزينتها وشهواتها.

    - الشفقة ، وهذا معلمٌ لطيف في حياة نوح عليه الصلاة والسلام، قال تعالى " إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون "، وتأمل هنا قوله " ألا تتقون " ترى فيها الرفق والرحمة مع أنهم كفار، وهذه الشفقة والرحمة يحتاجها كثير من الدعاة في دعوتهم وبرامجهم، ويجب أن تكون صفةً لازمةً لهم في أقوالهم وأفعالهم.

    وحينما تتأصل هذه الصفة فيهم فلاشك أنهم سيؤثرون في الكثير من الناس.

    وسوف نتخلص بهذا من فكرة العنف التي بدأت تظهر في حياة وتصرفات بعض الداخلين في الصف الإسلامي.

    توضيح : المقصود بالآية " أخوهم نوح " أخوة النسب لا الدين.

    وهذه الأخوة بهذا السياق في هذه الآية تثير فيك الرابطة والعاطفة في الشفقة بهم والحرص على دعوتهم لأن هناك ارتباط وثيق بهؤلاء الناس فلابد أن تسعى لهدايتهم وإنقاذهم من الشرك.

    وتأمل المشاعر التي كانت تختلج في قلب نوح حينما قال " إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم ". وفي آية أخرى " عذاب يوم أليم ".

    نعم إن الداعية الصادق ليخاف على المدعو من عذاب الله ولهذا تجد الداعية يبذل وقته وماله وحياته في دعوة الناس تصحيحاً لمسارهم لكي يسلموا من أسباب العذاب الرباني.

    - علو الهمة في الدعوة، وهذا المعلم ظاهر في حياة نوح عليه الصلاة والسلام فتأمل ماذا يقول ( إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً . ثم إني دعوتهم جهاراً . ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً ).

    إنها الهمة العالية، والجهد الكبير في الدعوة والإصلاح، إنك تتأمل في حياة رجل عاش ٩٥٠ سنة كلها في الدعوة، إنها سنوات طويلة، ولحظات عصيبة، وحينما يذهب الخيال لتوالي السنين وإذ بك ترى نوح في كل عام وهو باذل وقته وجهده في النصح والتبليغ، ياعجباً لهذه الهمة التي سكنت في قلب ذلك الرسول، والعجب أن تلك السنوات لم  يتداخلها كسل ولا فتور، بل نشاط واجتهاد وبذل وتضحية " ليلاً ونهاراً ".

    وإني أتساءل أين الدعاة في عصرنا من هذه الهمة؟

    أين هم من التشبه بنوح وصبره على طول الطريق؟

    أين طلاب العلم وأساتذة الجامعات من دعوة نوح وبرامجه وطموحاته؟

    هل اكتفينا بكلمة عابرة في كل أسبوع أو درس متقطع بين فترةٍ وأخرى؟

    أهكذا كانت همة نوح عليه الصلاة والسلام؟

    يا ترى متى يفيق الدعاة الكسالى من نومهم وفتورهم ويستيقظوا لحياة ملئها الجد والاجتهاد والاقتداء بالرسل الكرام " فبهداهم اقتده ".

    - ومن المعالم الدعوية " الاهتمام بالغاية " وهذا ظاهر في قول نوح " وإني كلما دعوتُهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ".

    فتأمل هنا كيف أوضح نوح الهدف من دعوته " لتغفر لهم " إذن لا يريد نوح من الناس إلا أن يهتدوا ليغفر الله ذنوبهم.

    وهذا ملحظ جميل وعجيب، تقف فيه على تلك القلوب الراقية النقية التي تحب الخير للناس ولا تريد حظوظاً لأنفسهم .

    - ومن المعالم في دعوة نوح : فتح باب التوبة والمغفرة للمدعوين ، وهذا ظاهر في قول نوح " فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً " إني ألمح من هذه الآية سعة مغفرة الله تعالى ورحمته وعظيم فضله.

    إن هذا الخطاب لقوم كفار ومع ذلك جاء الاسم " غفّار " وهو صيغة مبالغة من غافر.

    وإذا كان الله تعالى غفّار للذنوب وعلى رأسها الشرك، فهو لما سواه أشد مغفرة.

    والمدعو حينما يشعر بأن الله يقبل توبته ويغفر ذنوبه فإن هذا يدعوه للإقبال والتوجه إلى الله تعالى.

    لهذا أدعو كل داعية أن يركز على فتح أبواب الرجاء للناس وبيان سعة رحمة الله تعالى، وهذا لا يعني أن نهمل الترهيب من النار ومن سخط الله، ولكن يكون لدينا توازن بينهما، وحسب المكان والحال والزمان وطبيعة المخاطب.

    - ومن المعالم العظيمة في دعوة نوح عليه الصلاة والسلام : الصبر الكبير .

    حيث قال الله تعالى " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ".

    إنك حينما تتفكر في تلك السنوات التي قضاها نوح عليه الصلاة والسلام في دعوته لقومه لتقف على جبلٍ من الصبر عند ذلك النبي الكبير.

    أيّ قوةٍ تحتمل هذا الصبر الطويل، مع شدة الإعراض والتكذيب له، ومع ذلك لم يزدد إلا ثباتاً وصبراً وتضحيةً لأجل الله تعالى.

    وتستمر الليالي وتزداد السخرية والتكذيب واتهام النوايا والأتباع ومع ذلك يبقى نوح مرتدياً لباس الصبر ملتحفاً به لا ينزعه لحظةً واحدة.

    - ومع إشراقةٍ أخرى في حياة نوح " وما آمن معه إلا قليل ".

    إنها رسالة دعوية في حياة نوح تقول لكل داعية " لا تنتظر الأعداد " إنها ومضة تمنحك صدق الهدف في نصرة الدين ونفع العباد.

    إن هؤلاء العباد - أيها الداعية - قد يستجيبوا وقد يرفضوا دعوتك، فحينها لا يهمك هذا.

    إن لغة الأرقام في حياة الدعاة يجب أن تُلغى تماماً، فهذه ٩٥٠ سنة من حياة نوح تكون الأرقام فيها " قليل "، قال بعض المفسرين : عدد من آمن مع نوح ٨٠ رجل ، أي أنه يسلم رجل واحد كل ١١ سنة.

    يا لله العجب كيف يكون هذا؟

    إنك حينما تفكر بذلك فستقف على كنزٍ من الصبر عظيم، إنه في تلك السنوات كان يدعوهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ومع ذلك لم يؤمن معه إلا قليل.

    إنك حينما تلتفت لبعض الدعاة وترى في أحوالهم سوف تشاهد بوناً شاسعاً بين صبرهم وصبر نوح، وبين انتظار الأرقام والتطلع لها.

    فهذا يتوقف عن دروسه بسبب قلة الأعداد، وهذا لا يسافر للقرى لدعوتهم ويقول العدد قليل، وهذا يصاب بالفتور في برامجه الدعوية ويقول الناس لا يحضر منهم إلا قليل، وهذا مدرس تحفيظ يترك الحلقة لأن الطلاب فيها قليل.

    والمشاهد كثيرة في حياة بعض الدعاة وأهل العلم الذين يركزون على الأرقام في برامجهم.

    إن في يوم القيامة مشاهد عجيبة، ومنها أن ترى نبياً لم يأت معه إلا رجل أو رجلان والمعنى لم يتبعه على دعوته إلا هذا العدد.

    إنها رسالة لكل مصلح أن يمارس دعوته وتعليمه بدون أن يفكر في كم يهتدي أو ينتفع على يديه، وربنا يقول عن أنبياءه ورسله " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ".

    - ومن المعالم الدعوية في حياة نوح ، استعمال مبدأ " الترهيب " وهذا ظاهرٌ في قول نوح لقومه " مالكم لا ترجون لله وقارا "، والمعنى : مالكم لا تعظمون الله تعالى حق تعظيمه .

    إنه عتاب يتضمن التخويف بالله والحذر من سخطه.

    إن في النفوس نوع من الضعف والجهل والتمرد على العصيان، وهذه النفوس قد لا ينفع معها داعي الترغيب، فحينها لابد من جرعات من الترهيب والتخويف بالله تعالى.

    وهذا منهج قرآني ، كما قال تعالى " نبئ عبادي أنا الغفور الرحيم . وأن عذابي هو العذاب الأليم " وفي القرآن كثيراً ما يأتي وصف الجنة وبعده وصف النار، وقد وصف الله أنبياءه ورسله " مبشرين ومنذرين ".

    وفي حياة بعض الدعاة تجد من يُغلب جانب الترغيب، ومنهم من يسلك مسلك الترهيب، والتوسط في هذا الباب هو الحق، وهو منهج القرآن وطريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

    - ومن المعالم في دعوة نوح " رفض الأقربين لدعوته "، فهذه زوجته وهذا ولده ماتا على الكفر والعياذ بالله .

    وهذا المعلم تجده واضحاً في سيرة بعض الأنبياء، فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يحاول التأثير في والده ويدعوه إلى منهج الله ولكن والده يأبى ويرفض بل ويتوعد ولده بالرجم إن لم يقف عن دعوته هذه.

    وهذا لوط عليه السلام يبتليه الله بزوجته التي كانت على انحراف شديد عن الدين حتى أهلكها الله مع القوم الكافرين.

    وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يحاول دعوة عمه أبي طالب لعله يحظى بكلمةٍ منه وينادي ويقول " ياعم قل لا إله إلا الله كلمةً أحاج لك بها عند الله " فلم يقلها بل مات على الكفر.

    وهذا الدرس التربوي يفتح للدعاة آفاقاً عظيمة في أنه لا يملك هداية القلوب إلا الله تبارك وتعالى، ولا ينزل السكينة والإيمان في الصدور إلا هو جل وتعالى، كما قال تعالى " إنك لا تهدي من أحببت ".

    ومن ناحية أخرى فإن الداعية يجب أن لا يتأثر إن رفض دعوته أقرب الناس له، ويجب أن لا يفتر عن الطريق ويترك المنهج بسبب خذلان الأسرة له.

    إن التعلق بالمنهج والطريق يجب أن يكون في أعلى صوره.

    فيا أيها الداعية، واصل طريقك، واثبت على منهجك، حتى لو تخلى عنك أقرب الناس لك.

    يكفيك أنك سائر في قافلة المرسلين، تبتغي مرضاة رب العالمين.

    تكفيك معية الله ورعايته ومحبته " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ".

    مواجهات في طريق نوح :

    إن كل الدعوات السابقة كتب الله لها أن تواجه الباطل، ويصيبها من المواجهات والمصادمات الشيء الكثير، وما من نبي إلا وتجرّع في طريق دعوته الهموم والأذى على اختلافٍ بينهم في تفاصيل تلك المواجهات.

    قال تعالى مبيناً هذه السنة الجارية " وكذاك جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين ".

    وفي سيرة نوح عليه الصلاة والسلام نقف على جملةٍ من المواجهات ومنها :

    - " قالوا إنا لنراك في ضلال مبين "، إنه الاتهام الصريح بالضلال بسبب ماذا ؟ بسبب دعوته لهم.

    - رفض الدعوة بسبب أنه من البشر، قال تعالى عن قوم نوح  " مانراك إلا بشراً مثلنا "، إنه رفض كامل لكل الرسالة بسبب أنك من البشر، يا لله العجب، وهل من شروط الرسالة أن يكون الرسل من جنس آخر من غير البشر، بل لو كان من غير البشر لقالوا لِمَ لمْ يكن واحداً مثلنا نعرفه ونعرف نسبه وتاريخه من قبل.

    - ومن أسباب رفض الدعوة من قوم نوح السخرية بالأتباع الذين آمنوا بنوح.
    قال تعالى عن قوم نوح " ومانراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي " وفي آيةٍ أخرى " قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون ".

    وهذا أمرٌ غريب، إذ لا علاقة للداعية بنوعية الأشخاص الذين يتبعون منهجه، سواء كانوا فقراء أو أغنياء، ولكن هذه حجة أهل الباطل دوماً وأبداً في رفض رسالة الدعاة.

    ولهذا كان جواب نوح جواباً منطقياً " وماعلمي بما كانوا يعملون . إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون . وما أنا بطارد المؤمنين " وفي آية أخرى " ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم ".

    - ومن الاتهامات التي رماها قوم نوح على نوح " الاتهام بالكذب " كما قال تعالى  " بل نظنكم كاذبين "، وهذا التكذيب ليس لنوح في الحقيقة بل هو سُنّة جرت على كل الرسل، قال تعالى " ولقد كُذِّبت رسل من قبلك ".

    وهذا التكذيب لم يضر الرسل لأنهم متعلقون بالله صابرون على كل شيء يعترضهم في سبيل ذلك.

    - ومن أسباب رفض دعوة نوح " ضعف المكانة والجاه لدى نوح " قال الكافرين في نوح " وما نرى لكم علينا من فضل ".

    وهذا أيضاً من الباطل، لأن الحق قيمته في ذاته، وليس في مكانة الشخص الذي يحمله، فقد يأتي بالحق الرجل الغني وقد يأتي به الفقير، فهل سنقبله لأجل منصب حامله أو لأنه حق في نفسه.

    وأيضاً نوح له مكانته في قومه وهو أخوهم في النسب كما قال تعالى " إذ قال لهم أخوهم نوح "، فيا ترى لماذا يتهمونه؟

    إنه العداء الكبير للرسل والطعن في أنسابهم ومكانتهم.

    - رفض الدعوة بسبب اتهام النيات " ماهذا إلا بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضل عليكم "، وهذا الاتهام من غرائب التهم، فكيف تحكمون على نية نوح وأنه يسعى للترفع عليكم؟ هل لديكم برهان على ذلك؟ " كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ".

    إنها كلمات السوء التي تنالُ الدعاة على مرّ التاريخ باتهامهم في نواياهم ومقاصدهم بلا برهان.

    وكم تسببت تلك الاتهامات في إلحاق الأذى بالصالحين والمصلحين على مرّ التاريخ.

    -  بداية الانتقام الرباني :

    ويستمر نوح عليه الصلاة والسلام  في المجادلة والمحاورة مع قومه حتى كانت النهاية " قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين . قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين ".

    - ثم يمارس نوح التحدي القوي لقومه ويقول " إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لايكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولاتُنظرون".

    إنها رسالة تحمل في ذاتها قوةً وتوكلاً على الله في أنهم لن يقدروا على أن يمسوا نوح بسوء ولو اجتمعوا كلهم على ذلك.

    - ثم تبدأ علامة الهلاك بالدعاء بالهلاك، قال الله " فدعا ربه أني مغلوب فانتصر " ، " ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ".

    وكأني بنوح يتذكر تاريخه الدعوي وقد مضت ٩٥٠ سنة من عمره وهو يدعو وينصح ولكن لامجيب ولا مستجيب إلا القليل، وكأنه أراد أن يطهر الله الأرض من رجس هؤلاء الكفرة " رب لاتذر على الأرض من الكافرين ديارا ".

    يارب انتصر لي منهم وانتقم منهم وأرنا قوتك في إلحاق الهلاك بهم.

    - جاء الوحي مسلياً لنوح " لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلاتبتئس بماكانوا يفعلون ".

    يانوح إنا نراك ونرى ضعفك وقلة حيلتك في مواجهة هؤلاء، ونعلم بذلك وتعبك في سبيل الدعوة، فتوقف الآن عنها، واعلم أنه ليس هناك مزيد من الأتباع لدينك.

    - ثم يأتي الأمر الرباني لنوح " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ".

    وبدأ نوح في صناعة السفينة في الصحراء من الخشب ويتم تثبيتها بالمسامير، وجبريل عليه السلام يعلمه الصنعة، وفي الآية الأخرى" وحملناه على ذات ألواح ودسر " دسر يعني مسامير.

    وكان قومه يمرون عليه ويسخرون منه، قال تعالى " ويصنعُ الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون . فسوف تعلمون من يأتيه عذابٌ يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ".

    - وتحين ساعة الصفر والعذاب من الجبّار.

    " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ".

    كانت العلامة التي تدل على الهلاك هو خروج الماء من الفرن " التنور " وهذا غريب إذ كيف يخرج الماء من الفرن.

    وجاء الأمر " احمل فيها من كل زوجين اثنين ".

    أي احمل في السفينة أنواعاً من الحيوانات ليركبوا في السفينة ليبقى نسلها بعد ذلك .

    " وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ".

    أي خذ من أهلك المؤمنين فقط ولاتأخذ زوجتك الكافرة ولا ابنك الكافر.

    " ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ".

    قال بعضهم : عدد المؤمنين ٨٠ رجل .

    " وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم ".

    وهنا درسٌ في التسمية والاستعانة بالله واستشعار رحمة الله في حمايته وحفظه من الغرق.

    ثم تبدأ الكارثة:

    " ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر . وفجرّنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قُدِر . وحملناه على ذات ألواح ودُسر . تجري بأعيينا ".

    ولك أن تتخيل الماء الذي يتفجر من السماء ومن الأرض بشكل هائل ليعم الأرض كلها.

    والسفينة ذات الإمكانيات البسيطة تجري فوق تلك الأمواج ولكنها تجري بعناية الله وحفظه " تجري بأعيننا "، ومادامت عين الله معهم فلن يمسهم سوء.

    " وهي تجري بهم في موجٍ كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يابني اركب معنا ولاتكن مع الكافرين " .

    - تخيل مشهد الأمواج الهائلة التي بلغ ارتفاعاتها كالجبال.

    - وتأمل شفقة نوح على ابنه ومناداته له في زحمة الأمواج.

    - وهنا يكون حزب الإيمان في السفينة وحزب الكفار خارجها.

    ثم نلتفت لذلك الابن الذي يخاطب والده بقوله " قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ".

    - هنا نجد أن الابن يتعلق بالأسباب الأرضية.

    - ينسى الابن أن الجبار غضب على الكفار كلهم في تلك اللحظات.

    - وفي سرعة الموج واضطراب المياه من كل مكان يغطي الموج تاريخ تلك الفئة الكافرة ويزول وجودهم من التاريخ.

    ثم نجد نوح ينادي ربه بلطف " ونادى نوح ربه فقال إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين ".

    - إن العاطفة تبقى تسري في الأبوين مهما كان ولدهم على انحراف.

    - ونوح يتلمس الدعوات للرب بنجاة الابن وسلامته.

    - لقد فهم نوح من قول الله له " وأهلك " أن هذا يشملهم كلهم حتى الكافر منهم.

    فيأتي الجواب الرباني " قال يانوح إنه ليس من أهلك إنه عملٌ غير صالح فلا تسئلن ماليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ".

    - ابنك يانوح ليس على منهجك ولا على دينك إذن فليس هو من أهلك الذين يستحقون النجاة.

    - وهذا درسٌ في أن الأنساب لاتنفع حينما ينزل العذاب، والنسب الحقيقي هو في الدين كما نص الله على ذلك بقوله " إنما المؤمنون إخوة ".

    - أن مصاحبة المؤمنين لا تنفع إن لم يكن الصاحب مؤمناً.

    - العتاب الرباني لنوح في دعاءه مالا يصح منه.

    - من صور الجهل: الجهل في صيغة الدعاء.

    ثم يعتذر نوح عليه الصلاة والسلام لربه ويقول: " قال رب إني أعوذ بك أن اسألك ماليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ".

    - هنا نوح يعترف ويعتذر لربه تبارك وتعالى .

    - يطلب نوح من ربه المغفرة والعفو على ذلك الخطأ الذي بدر منه.

    - الخوف الكبير في قلوب الأنبياء من أن يسخط عليهم ربهم.

    وبعد ذلك يأتي الوحي من رب الأرباب لتلك السماء ولتلك الأرض :

    " وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين ".

    - يأتي الأمر الرباني للأرض أن تبلع ماءها ، وللسماء أن تتوقف عن المطر .

    - وغيض الماء أي نقص .

    - وقُضي الأمر الرباني وتم الإهلاك من الجبار وتنتهي قصة الطغيان.

    - الجودي جبل بالقرب من الموصل .

    ثم يخاطب الله نبيه نوح بلطف ويقول : " قيل اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك ".

    - اهبط من السفينة فالآن أنتم في أمان.

    - اللطف الرباني مع نوح وتسليمه عليه.

    - البركات التي تنزلت على نوح ومن معه بسبب تمسكهم بدين الله.

    وننتقل لسورة نوح التي تضمنت أسراراً عجيبة لنقف على معلمٍ كبير وافتقار عظيم، فها هو نوح يرفع الكلمات من قلبٍ منكسر بين يدي الله تعالى يختم بها مسيرة دعوته " رب اغفر لي ".

    فعجيب شأنك يانوح تقضي ٩٥٠ سنة ثم تسأل ربك المغفرة .

    وهكذا تنتهي قصة نوح بنجاته هو ومن آمن معه، وينتهي الظلم الذي ملأ الأرض لسنواتٍ طوال.

    يأتي النصر لنبيه وللمؤمنين بعد ما قاسى أهل الإيمان صوراً كبيرة من الظلم والإعراض عن الله والصد عن سبيله، وفي هذا درس للدعاة أن المستقبل لهذا الدين، وأن النصر قد يتأخر ولكنه سيأتي ولو بعد حين، وأن الدعوات كلها جرت عليها صنوف من المحن والشدائد ولكن العاقبة للمتقين، والفوز في النهاية لحزب الله الصادقين.


    مواد آخرى من نفس القسم

    مكتبة الصوتيات

    يا نفسُ توبي

    0:00

    النجاح والمحاسبة

    0:00

    تلاوة من سورة النور 35-40

    0:00

    دعاء لسوريا

    0:00

    قصة الأعمى يوم القيامة

    0:00



    عدد الزوار

    4179754

    تواصل معنا


    إحصائيات

    مجموع الكتب : ( 21 ) كتاب
    مجموع الأقسام : ( 92 ) قسم
    مجموع المقالات : ( 1593 ) مقال
    مجموع الصوتيات : ( 996 ) مادة