في قصة موسى عليه السلام محطات كثيرة وفيها الكثير من الدروس والعبر.
وسوف نقف هنا في إحدى تلك المحطات، وهي في لحظة خروج موسى عليه السلام من مصر وتوجهه للشام فراراً من فرعون.
بدايةً، قال تعالى عن تلك الرحلة (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ).
١- فيه: حسن الظن بالله والثقة به سبحانه وتعالى في أن المستقبل سيكون أفضل بإذن الله تعالى.
2- مفهوم الهداية لا يقتصر على أمور الدين، بل يشمل الهداية حتى لأمور الدنيا في كل جوانبها.
3- يمكنك أن تدعو الله وأنت في طريق سفرك، حتى لو لم تأت ببقية آداب الدعاء، فهنا موسى يسأل ربه الهداية وهو خارج من بلده، وهو مهموم وخائف، وكذلك أنت متى وجدت نفسك محتاجا للدعاء فالهج به حتى لو كان الوقت ليس من الأوقات التي تتأكد فيها الإجابة مثل آخر الليل أو السجود.
ثم قال تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ).
4 - المعنى: وجد موسى عليه السلام مكاناً فيه ماء ووجد الناس مزدحمين حوله لسقاية مواشيهم الماء، ورأى امرأتين حول هذا المكان وكأنهم يريدون سقاية الماء لمواشيهم ولكنهم لم يخالطوا الرجال.
ومعنى " تذودان " أي تحبسان أغنامهما، والسبب:
لوجود رجال عند الماء فلا يتمكنان من السقي، وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء، وحتى لا تختلط أغنامهما بأغنامهم.
5- يظهر من حال تلك الفتاتين أن لديهم تربية مسبقة بالبعد عن مزاحمة الرجال.
6 - اقترب موسى عليه السلام وخاطب الفتاتين " قال ما خطبكما ".
وفي هذا إشارة إلى أن الرجل إذا أراد الكلام مع المرأة الأجنبية أن يتكلم بقدر الحاجة، فهنا قال موسى " ماخطبكما " بدون مقدمات أو عبارات فيها تلطف.
7 - كان جواب الفتاتين لموسى: " قالتا لا نسقي ".
ويستفاد من هذا؛ أن كلام المرأة مع الرجال يجب أن يكون بعبارات واضحة تؤدي المقصود بدون تلطف.
ولهذا ينبغي أن نربي فتياتنا على ذلك، وخاصةً في زمننا هذا الذي رأينا فيه تساهل بعض الفتيات في مخالطة الرجال ومزاحمتهم صوتاً وجسداً وعملاً وتسوقاً وسفراً.
8 - يا ترى ما هو السبب الذي جعل الفتاتين لا يسقون الماء؟
الجواب: " حتى يصدر الرعاء "؛ أي لا نذهب لأخذ الماء إلا بعد ذهاب الرجال من المكان.
وفي هذا تربية على عدم الاختلاط بالرجال، وهذا منهج تربوي يجب أن يتأصل في نفوس الفتيات لكي تبقى المرأة محفوظة كالجوهرة، وأما إن زاحمت الرجال فلا شك أن العيون والشكوك والأخطاء ستدور حولها، والله المستعان.
وفي قول الفتاتين " وأبونا شيخ كبير ".
9- فيه: بيان لسبب الخروج من المنزل وهو كبر سن والدهم وعدم وجود رجال يخدمونهم.
10- ويستفاد من ذلك: احترام البنت لوالدها بوصفها شيخ كبير.
11- ومن ذلك: إخبار الرجل الأجنبي أن عندنا والد ينتظرنا، وفي هذا إشعار للرجل بأن لدينا رجل يحمينا ونحن نخدمه.
12- وفي خروج الفتاتين لسقاية الماء نأخذ درساً في تربية المرأة على المسؤولية في رعاية أمور المنزل في حال غياب أو فقد الرجال الذين في البيت كالوالد أو الزوج أو الإخوة.
13- وفيه: وجود الثقة بين الوالد وبناته في إرسالهم لقضاء حوائج المنزل وغيرها من أمور الحياة كالدراسة والوظيفة.
فلما سمع موسى منهم هذا الجواب قام بخدمتهما (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).
وفي ذلك:
14- المبادرة لفعل المعروف وإغاثة الملهوف وهذه من أعظم الصفات وأزكاها.
15 - " ثم تولى إلى الظل " هنا: نأخذ درس في عدم انتظار الشكر من الآخرين، بل نقدم الخدمة ثم نتولى ونبتعد كما فعل موسى عليه السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ويظهر من الآية أن الشمس كانت ملتهبة ولهذا بادر موسى إلى الظل مباشرة، وهذا يدل على كمال خلق موسى عليه السلام في خدمته للفتاتين في شدة الحر.
16- الحياء والعفاف عند موسى، فلم يجلس يتحدث مع المرأتين بعد مساعدتهم، بل انصرف مباشرة.
- قال تعالى على لسان موسى " رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير ".
17- الدرس هنا: أنه مهما بلغت منازل العباد فهم " فقراء إلى الله ".
18- موسى عنده صفة الإحسان للناس، والتواضع لرب الناس.
- وبينما كان موسى عليه الصلاة والسلام جالساً تحت الشجرة ماذا حصل له؟
" فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ".
19- جاءت فتاة واحدة لتخاطب موسى بأمرٍ مهم، ولم تأت الأخرى معها، لأن الموقف لا يستدعي خروج امرأتين، وأما الخروج لسقاية الغنم فهو شاق ويحتاج للمرأتين.
20- الحياء ليس فقط في اللباس أو في الكلام، بل من أعظم صور الحياء بالنسبة للمرأة، الحياء في المشي، وكم من امرأة يظهر من مشيتها أنها منزوعة الحياء، وأخرى توقن من مشيتها أنها مليئة بالحياء.
21- الحياء لا يأتي إلا بخير، وانظر كيف كانت نتيجة حياء تلك المرأة أن أقبل موسى لوالدهم ثم تزوج من تلك الأسرة الصالحة.
وفي قوله تعالى: (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
22- هنا بدأت المرأة بمخاطبة موسى بلهجة بعيدةٍ عن أي مقدمات وثناء.
23- قالت الفتاة " إن أبي " فهنا ربطت الطلب من عند الأب في رغبته لمقابلة موسى، ولم تذكر عبارة تدل على أنها هي الراغبة، وهذا منهج سليم في التعامل مع الرجال.
24- قوة الثقة بين الأب وابنته حيث أمرها أن توصل هذا الكلام لرجل أجنبي عنها.
25- قام موسى عليه الصلاة والسلام ليذهب لوالدها، وفي هذا جواز قبول الهدية والمكافأة من الغير.
26- وفي موقف والد الفتاتين نأخذ درس في الحرص على مكافأة من يحسن لك، سواء كانت المكافأة بالدعاء أو بالهدية ونحو ذلك.
وفي قوله تعالى: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ).
27- مشى موسى عليه السلام أمام الفتاة لكيلا يراها والرياح قد تحرك ثيابها، وهي تدلّه على الطريق من الخلف.
28- دخل موسى وقص همومه على والد الفتاة، وفي هذا دليل أن حكاية الحال ليست من الشكوى المذمومة.
وبعد ذلك قال الرجل لموسى: (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
29- وفي هذا طمأنة الخائف بالكلمات الإيجابية وزرع التفاؤل في حياته، فموسى غريب في ذلك البلد وهو بحاجة لمجتمع صالح يأنس معه، ويحتاج لشخص يقف بجانبه في غربته.
30- بعد المحن فتوحات ربانية، فموسى خرج خائفاً من فرعون وجنوده وهنا يعيش في بلد الأمن ثم يتزوج، وصدق الله (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا).
(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ).
31- هنا طلبت الفتاة من والدها بديلاً لهم في معاناة العمل وسقاية الماء حتى لا تختلط بالرجال.
32- تربية الفتيات على عدم الخروج من المنزل إلا لحاجة.
33- اختيار العامل القوي الأمين، ولا تكمل الصفة الواحدة منها إلا والأخرى معها.
ومضة: القوة والأمانة من أجمل صفات الرجال، والحياء من أجمل صفات النساء.
34- الحكم على الناس بمظاهرهم وأخلاقهم، وفي هذا إشارة إلى أن يحرص المرء أن يكون قدوة في أقواله وأعماله لأن الناس يحكمون عليه ويقيمون دينه وخلقه وشخصيته من خلالها.
35- مسألة: كيف عرفت الفتاة أن موسى قوي وأمين؟
أمّا صفة القوة فلعلها أخذتها من قيامه بسقاية الماء.
وأمّا الأمانة فلعل ذلك من مشي موسى أمامها لما ذهب معها لمنزلهم.
ثم قال والد الفتاتين: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).
36- هنا الذي بادر بالكلام الأب وعرض الزواج من ابنته للرجل الصالح؛ وهذا تصرف حكيم من ذلك الرجل في الحرص على تزويج ابنته من الرجل صاحب الدين والخلق.
37- جواز أن يكون المهر هو مدة من الزمن للعمل.
وفي قوله تعالى: " وما أريد أن أشق عليك ".
38- يستفاد منه الرحمة بالعمال وعدم تكليفهم ما لا يقدرون، وكم يعاني العمال في كثير من البلاد من ظلم أرباب العمل وتكليفهم ما لا يطيقون وتأخير رواتبهم وغير ذلك من صور الظلم.
وفي قوله تعالى: (قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ).
39- تواضع موسى في قبول الوظيفة المتواضعة، وهنا نقول للشباب: إن العمل ليس بعيب مهما كان فيه نوع من التعب، وهو أفضل من سؤال الناس.
40- وهنا درس في الوضوح في الاتفاقيات والعقود مع الآخرين، وقد جاءت الشريعة بالحث على مراعاة العقود وصيانتها، قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وكلما كانت العقود واضحة، سلم الأطراف من النزاع.
اللهم ارزقنا تدبر الآيات والانتفاع بالعظات.
مكتبة الصوتيات
ما أجمل الإنكسار
0:00
رسائل في الإصلاح
0:00
دعوة للمسابقة
0:00
المستشار الناجح
0:00
البكاء من خشية الله
0:00
عدد الزوار
4970399
إحصائيات |
مجموع الكتب : ( 24 ) كتاب |
مجموع الأقسام : ( 93 ) قسم |
مجموع المقالات : ( 1596 ) مقال |
مجموع الصوتيات : ( 995 ) مادة |